الفصل الأول: ظروف صعبة

زينب سيّدة خمسينية تعيش مع أبنائها الستة -جميعهم ذكور- في بلدة صغيرة تبعد عن مركز المدينة كيلومترات كثيرة، وقد قُدّر لهذه السيدة أن تعيش حياة صعبة وقاسية؛ فمنذ عشرين عامًا -وهي ما تزال شابة في بداية حياتها وأبناؤها ما زالوا صغارًا- توفي عنها زوجها بحادث أليم، وتركها وحيدة تصارع الحياة والظروف المعيشية الصعبة وتتحمل مسؤولية الأولاد وحدها دون مُعيل.


لم تستلم زينب لظروفها الصعبة وللدخل الشهري القليل الذي لم يكن يكفي لتلبية متطلبات الحياة الأساسية، بل على العكس واجهت ذلك كلّه بجبروت وقوة وقد نذرت حياتها في سبيل تربية أبنائها، فكانت تعمل من المنزل في الخياطة إلى جانب تحضير بعض المأكولات الشعبية وبيعها، كما كانت تقطع المسافات البعيدة سيرًا على الأقدام إلى مركز المدينة لإحضار حاجياتها، فأصبح يُضرَب بها المثل بين أهالي البلدة بتضحيتها وإيمانها القوي بالله تعالى.

الفصل الثاني: ولدي حبيبي

ربّت زينب أبناءها الستّة وأصبحوا اليوم شبابًا ناجحين كما لو أنهم كانوا من أثرياء البلاد ومن أنجحهم، وكانوا بالنسبة لها الذخيرة التي خرجت بها بعد سنوات من الآلام، وهي كذلك كانت بالنسبة لهم الدنيا بأكملها ومصدر الفخر والاعتزاز بحياتهم، وقد قدرّ الله لعائلة زينب الانتقال إلى منزل أفضل في العاصمة بعد أن منّ الله على أبنائها بوظائف جيدة حسّنت من أوضاعهم المعيشية.


وفي تمام الساعة السابعة في أحد الأيام كانت زينب كالعادة في جلسة عائلية دافئة مجتمعة مع خمسة من أبنائها على طاولة العشاء بانتظار عودة سليمان -أصغر الأبناء والبالغ من العمر عشرين عامًا-، وأحاديث مختلفة تُطرَح من كل جانب، إلا زينب التي بدت شاردة في الوجوه متوجسة من تأخر سليمان، فليس من عادته أن يتأخر عن جمعة كهذه يعلم أنها تعني لأمه زينب الشيء الكثير.


دقت الساعة العاشرة مساءً وسليمان لم يعُد بعد والاتصالات تنهال عليه من الجميع لكن دون ردّ، فلجس الجميع في صمت مُخيف وبقي الطعام موضوعًا على المائدة على حاله لم يقترب منه أحد، فقالت زينب بعد أن فرغ صبرها وتجمعت الدموع في عينيها دون أن تسمح لها بالنزول: فلتذهبوا إلى مستشفيات المدينة ومراكز الشرطة بحثًا عن سليمان، فقد طال غيابه وأخشى أن يكون قد أصابه مكروه، فقاموا جميعًا منفذّين للأوامر دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة.


كان معروف أنّ سليمان الابن المدلل عند والدته وبينهما علاقة مختلفة عن بقية إخوته، ودائمًا ما تُناديه أمام إخوته لتثير غيرتهم مازحة: جاء ولدي حبيبي، وذهب ولد حبيبي، وهو يُبادلها كلمات الغزل المختلفة ويُقبّل رأسها بحنان وحب دائمًا، فأمضت زينب ليلة غيابه تدعو الله عزّ وجلّ أن يردّه إليها سالمًا لا أذى صابه ولا مكروه، لكن بقي في قلبها شيء غريب شعرت به ولم تستطع الإفصاح عنه.


الفصل الثالث: الصبر واحتساب الأجر

مضت عدة أيام ولا خبر عن سليمان وزينب صابرة لم يتوقف لسانها عن الدعاء لحظة واحدة، وبينما هم جالسون رنّ هاتف الابن الأكبر خالد بمكالمة من رقم خاص، فردّ عليه متسائلًا وجلس الجميع يرقب وجهه الذي بدت عليه علامات الخوف وقد أنهى المكالمة بقوله: حسنًا، سأحضر حالًا، ثم نهض من مكانه وقال: ضابط من قسم الشرطة طلب مني الحضور إلى القسم لأمر مهم يبدو أنه بخصوص سليمان، وخرج أن ينتظر ردًا من أحد.


وصل خالد إلى مركز الشرطة ووجد سيارة سليمان واقفة أمامه سليمة ولا خدوش فيها، فبدت بعض تباشير الأمل على مُحياه، وبعدما دخل وجلس مع الضابط نزل عليه خبر كالصاعقة؛ حسب شهود العيان سليمان أوقف سيارته على جانب الطريق وأراد قطع الشارع لكن قبل أن يصل إلى الجانب الآخر كانت سيارة نقل كبيرة أسرع منه فحعلته تحت عجلاتها، وجثته موجودة في أحد المستشفيات.


لم يصدّق خالد الخبر، لكنه أنهى الأوراق المطلوبة ودموعه منهمرة دون توقّف، ودرات في رأسه عشرات الأفكار عن الحال التي ستصبح عليه والدته زينب عندما يُخبرها بالأمر، ولما وصل إلى البيت حاول قبل الدخول أن يتماسك قدر الإمكان، إلا أنّه لم يقوَ على ذلك؛ فلم تكد تطأ قدمه باب المنزل وقد رأى إخوته وأمه حتى صاح باكيًا بشدّة: لقد ذهب سليمان، ذهب دون عودة.


انهار الجميع وراحوا يبكون بحرقة وألم إلا زينب وقفت صامدة كالطود الشامخ، ولم يصدر منها لا صراخ ولا نحيب، وقالت بثبات وإيمان قويّ: راضية بقضائك وقدرك يا رب، سليمان كان أمانة والله أخذ أمانته، الحمدلله على كلّ حال، ولم يصدّق أحد أنها قادرة على الصمود أمام هذا الخبر المُفجع.


لم ينزل من زينب دمعة واحدة، وأصرّت أن تذهب إلى المستشفى لوداعه رغم تحذيرات خالد لها بعدم احتماله لمنظره، فقد مات دهسًا، إلا أنها كانت مُصرّة على ذلك، ولما فُتحت لها ثلاجة الموتى وكشفت الغطاء عنه قبّلته بين عينيه وعلى شفتيها ابتسامة راضية قائلة: مع السلامة ولدي حبيبي نلتقي في الجنة بإذن الله، ثم أرجعت الغطاء وأخذت ملابسه تحملها بين يديها وهي في طريق العودة إلى البيت لأخذ عزائه، ولم يتوقف لسانها عن قول الحمدلله؛ فقد كان لزينب يقيّن بالله هوّن عليها مصائب الدنيا.



ولقراءة المزيد من القصص الحزينة والمؤثرة: قصة نار الحقد، قصة لا تحزن على فراقي.