التفرقة بين الأبناء

لدى فوزية البالغة من العمر ثلاثة وستون عاماً شابان اثنان أحدهما يدعى سهيل والآخر رمزي وهو الأصغر سناً، حيث توفي زوجها وهي شابة صغيرة مما جعلها تقوم على تربيتهما وحدها دون معيل.


عندما بدت أمارات الشباب تظهر على سهيل قرّر ترك دراسته واتجه للعمل في النجارة مُضحيّاً بمستقبله لمساعدة والدته في إعالة أخيه، حيث أصبح المسؤول الوحيد عن مصروف المنزل مجاهداً نفسه لتعويضهما عن خسارتهما لأبيه منذ الصغر، ممّا جعله يتعهد بإكمال تعليم أخيه رمزي حتى تخرجه من الجامعة وتأمين مصروفه اليومي، وذلك ما جعل الثاني اتّكالياً وطائشاً مُعتمداً على أخيه الكبير، رافضاً العمل بشهادته تكاسُلاً وأنانية منه، بينما أفسد دلال والدتهما فوزية ابنها الصغير الذي كانت دائماً ما تُغطّي على أخطائه المتكررة.


في أحد الأيام كان سهيل عائداً منهكاً من عمله بعد يوم شاق وطويل حيث استقبلته والدته وقالت له بنبرة مرتجفة: لقد تأخر أخيك رمزي كثيراً عن العودة إلى المنزل يا ولدي، كما أنني اتصل به ولا يجيب على هاتفه.

استغرب سهيل وقام بتهدئتها وقال لها: لا تقلقي سأذهب للبحث عنه، فلا بد أن يكون مع صديقه كمال في أحد المقاهي.

في تلك الأثناء خرج للبحث عنه محاولاً الاتصال به لكنه لم يكن يُجيب، وحينها اتصل به كمال وأخبره أن رمزي وقع في مشكلة دخل على إثرها السجن،

وعندما سمع سهيل بذلك ارتبك وذهب مُسرعاً إلى مركز الشرطة للاستفسار عن سبب المشكلة، وفور وصوله دخل إلى رئيس المغفر واستفسر منه عن سبب حبس أخيه رمزي، حتى أخبره أنه قُبض عليه وهو يحاول سرقة أحد المحلات التجارية في المنطقة، وعندما سمع سهيل ذلك قال مستنكراً: لا يمكن ذلك، لا بد أنّ هنالك خطأ ما.

حدّق رئيس المخفر النظر به بغضب وقال له: أتراني أمازحك!

تأسّف سهيل منه وقال: ماذا علينا أن نفعل لكي يخرج من السجن إذن؟

قال له رئيس المغفر: على صاحب المحل التنازل عن حقّه أولاً، ومن ثم دفْع تعويض مالي للحق العام حتى يخرُج.

تنهّد سهيل وقال له: حسناً، سأُدبّر الأمر.

ثم خرج مُسرعاً إلى المنزل وأخبر والدته بما فعل ابنها المُدلل، وعندما سمعت بذلك لطمت وجهها وبدأت بالبكاء.

نظر لها سهيل يائساً وقال: علينا الآن أن ندبّر مبلغاً من المال لكي نُخرجه من السجن.

اقتربت منه والدته ووضعت يدها على رأسه وقالت له بنبرة شفقة: ما رأيك بدفع المبلغ الذي كنت تدّخره منذ سنوات لكي تتزوج، لعلك تفكّ أسر أخيك الوحيد.

هزّ سهيل رأسه وقال لها بنبرة حزينة: لا تقلقي سأفعل ذلك.

فرحت والدته وحضنته وقالت: عوّضك الله خيرا يا ولدي، فرمزي ما زال صغيراً، وعليك الاعتناء به جيداً.

ابتسم سهيل ابتسامة ساخرة ثم دخل إلى غرفته، وفي صباح اليوم التالي اتجه إلى صاحب المحل الذي سرقه رمزي ليُقنعه للتنازل عن حقه الشخصي مقابل مبلغ من المال، لكن صاحب المحل رفض ذلك وقام بطرده، إلا أن إلحاح سهيل عليه جعله يوافق على التنازل، ثم اتجها سوياً إلى المغفر حيث قام بالتنازل عن حقه الشخصي بعد أن دفَع سهيل المبلغ المترتب عليه، وعند وصولهما البيت قامت والدته باستقباله بحفاوة وهي تبكي وتحتضنه وتتفقد كل عضو فيه: أرجو أن لا يكونوا قد ضربوك في السجن، فأومأ رمزي برأسه بالنفي.

وسهيل غارق في نوبة من الغضب والملامة على أمّه التي ستفسد رمزي هذا بدلالها، بل أفسدته!، ثم دخل إلى غرفته دون التفوّه بكلمة، وفي مساء اليوم التالي زارهم حسني صاحب المنزل الذين يسكنون به، والذي يملك البقالة المجاورة في منطقتهم والمعروف بلؤمه الشديد، حيث جاء والغضب على وجهه مُطالباً إيّاهم بدفع آجار المنزل المترتب عليهم منذ ثلاثة أشهر، فقام سهيل بتهدئته وطلب منه إمهاله بعض الوقت لدفعه إلا أنه رفض ذلك وهدده بالسجن إن لم يدفع، ثم خرج غاضباً وطرق الباب خلفه.


بقي سهيل يفكّر في كيفية تأمين المبلغ لصاحب المنزل ثم تجرّأ وذهب لوالدته وقال لها: لا بد لرمزي أن يساعدني في تأمين المبلغ، لذلك يجب عليه أن يبحث عن عمل.

ترددت الأم والتفتت حولها وقالت له بصوت منخفض: لكن رمزي ما زال صغير، ولا يستطيع الاعتماد على نفسه.

لتثور حينها ثائرة سهيل، ويجنّ جنونه للمرة الأول فيقول:: لقد تخرّج من الجامعة وما زلت تعتبرينه صغير! صغير صغير لقد أفسدتيه بدلالك هذا، وأنا من يحمل العبء دائماً، وخرج صافقاً الباب وراءه بقوة.

عندها قرّرت الأم أن تطلب من رمزي الكدّ والعمل لمساعدة أخيه الكبير، فأجابها متململاً وهو يقلّب في هاتفه النقال بين صفحات التواصل الاجتماعي: وأين سأجد عملاً يناسبني؟

اقتربت منه والدته وقالت له بصوت منخفض: ما رأيك أن تعمل عند حسني في بقالته؟

-ها! حسني؟

-نعم، أعمل لديه ثلاثة شهور فقط مقابل إيجار البيت المترتب علينا.


الانتقام

عمل رمزي مع حسني في بقالته أسبوعين، وكان كسولاً متذمّراًً طيلة الوقت كونه ليس مُعتاداً على تحمل المسؤولية، وفي أحد الأيام اندلع شجار بينه وبين حسني صاحب البقالة أدى بالرجل العجوز ذو المراس الصعب لصفعه أمام الجميع، فثارت ثائرة رمزي وهمّ بضربه إلى أن فصل بينهما الناس، فأدار ظهره يهيل عليه من الشتائم أفظعها، ويتوعّده بكلّ سوء، وعند الفجر تسحّب الشاب الأرعن من فراشه وقام بإشعال النار في البقالة وهرب مُسرعاً إلى منزله، وأثناء دخوله استيقظت والدته وأخوه سهيل على صوته، فوجدوه لاهثاً بالكاد يلتقط أنفاسه، فهدأوه ثم جلس على كرسيه وجبينه يتصبب عرقاً، حيث اقتربت والدته منه وسألته عن سبب خوفه فأخبرها بأنه قام بحرق بقالة حسني انتقاماً منه

ولمّا سمعت ذلك أخذت باللطم والولولة، وبعد حين التفتت لسهيل وقالت له: أرجوك يا بني ستتشف الشرطة الفاعل لا محالة، فإن فعلوا فأخبرهم أنّك من قام بذلك، فأنت رجل شديد ستحتمل السجن على عكس أخيك، وأنا سأحاول إيجاد طريقة لإخراجك.

حدّق سهيل بأمّه لا يكاد يصدّق ما سمعه، إلّا أنّه تذكّر وصية والده له عليها وعلى أخيه قبل موته، فأومأ بالقبول وعيناه تغرورقان بالدموع، وانسحب إلى غرفته خائباً وعند عصر ذات اليوم قُرع جرس المنزل وكانت الشرطة تستعدّ للتحقيق مع رمزي كونه يعمل في بقالة حسني كما أن الناس شاهدوه يتشاجر معه ليلة الحادثة، وقبل بدء التحقيق أخبرهم سهيل أنه هو مَن حرق بقالته انتقاماً لأخيه على صفعه له، وعندها قاموا بأخذه إلى مركز الشرطة لإكمال التحقيقات، وعند بدء التحقيقات قال له المحقق غاضباً: ألأجل ردّ صفعة تلقّاها أخوك يا أبله سيُحكم عليك بالإعدام شنقاً؟!.

نظر له سهيل مُستغرباً وقال: نعم! أُعدم شنقاً! بسبب حريق أضرمته في بقالة!

قال له المحقق بنبرة غضب: لقد ارتكبت جريمة قتل، وقمت بحرق حسني حياً أثناء نومه داخل البقالة، وتقول لي أنك لم تفعل شيئاً يستحق الإعدام!

لطم سهيل على وجهه عندما سمع ما سمع، وخرّ مغشياً عليه بعد أن أيقن أنّ أخاه قد قتل صاحب البقالة، غير أن والدته وبسبب دلالها الزائد لابنها الصغير جعلته يعترف بجريمة لم يرتكبها ستؤدي به إلى حبل المشنقة.