خَيبة

أنهت رَغدة التي تبلغُ من العمر عشرين سنةً أداء فروضها البيتيةِ والدراسيةِ بعدَ يومٍ طويلٍ وشاقٍ لها في الجامعة، فألقت جسدها المُنهكَ فوق السرير في غرفتها المظلمة، وأمسكت هاتِفها وراحت تُقلبُ في تطبيقاته الاجتماعية كعادتها اليومية قبيل النوم، وبينما هي منغمسةٌ في التحديق إلى شاشتها وتحريك إبهامها على الشاشة، قَرأت:

"لا يوجدُ أنثى قبيحة، كُلهنَ جميلات بمقاديرَ معينة".


حركت عبارةُ الشابِ شيئاً في نفس رغدة، وهي الفتاةُ التي تملكُ وجهاً دميماً وجسداً سميناً فُرضا عليها قطيعةً من الجنس الآخر، فدخلت حسابه الشخصي لتنقبَ في معلوماته الشخصية وبياناته الذاتية، فعرفت أنهُ زميلٌ لها في الجامعة، عادت إلى منشورهِ وعَلّقت مبتهجةً مغتبطة: "لكم هو جميلٌ أن يُمنحَ الإنسانُ فرصةً قبل استصدارِ حُكمٍ عاطفيٍ بحقهِ بناءً على الشكل الخارجي".

وراحت تنتظرُ بلهفةٍ تفاعلهُ عليه، وَهي تحدثُ نفسها: تُرى كيفَ سيكونُ شكلهُ؟ هل سيكتفي بالإعجاب؟ أم أنه سيعلقُ عليه؟ ولكن آمل أن يُعلّقَ عليهِ على كل حال.

ولجت حسابه مرةً ثانية وراحت تُقلبُ فيهِ بهدوء وهي تُأَمّل ردهُ، فرأت كثيراً من الحِكمِ الفلسفية، والمواعظ الدينية الأمر الذي سرَّ خاطرها، وقالت: يا لهُ من صاحب حكمة! أيمكن لمثلهِ أن يوجد حَقاً؟، ثُمَّ ذهبت تتجول في ألبوم الصور، فشاهدت صورهُ الشخصية: وله ملامح وسيمة قسيمة أيضاً!.

وفجأةً سمعت تِرررن، وشاهدت في الجزء العلويّ من الشاشة لقد رد إبراهيم خليل على تعليقك، فضغطت متلهفةً بأصبعها على الإشعار، وقرأت: الجهلة وحدهم من يسقطون في فخِّ المظهر.

تهللت أسارير رغدة وتفاعلت بِقلبٍ على ردهِ، وفكرت في تعقيبٍ آخر: همممم ماذا أقولُ أيضاً! ولمّا لم تجد شيئاً تقولهُ كَتَبتْ: من هم مثلك في مجتمعنا نادرون، والأكثريةُ يقفُ دونها جدارُ الشكل.

رد عليها: أشكرك، وطلب صداقتها فوافقت بكلّ سرور.


٢

في صبيحة اليوم التالي التقت رغدة صديقتها جمانة في باحةِ الكلية، وأخذت تُحدثها باغتباط ساذج عن اكتشافها الفريد: ليلة أمس تعرفت بشاب صاحب ثقافة ودين له منظارهُ الخاص في الحكم على البشر، فهو يستندُ قبلَ كل شيءٍ على مكنونات الإنسان..آه صحيح، وبعد مراسلةٍ صغيرة على إحدى المجموعات، طلبَ صداقتي ووافقت، وأعتقد أن علاقتنا ستتوطد عما قريب.

نظرت جمانة إليها باستغراب وقالت: ما أعجب حماستك! وما أشد طيشكِ وأعنف اندفاعك! كيفَ عرفتِ كل ذلك عَنهُ؟

-كيفَ عرفت؟ أحسست يا أختي..وأنا إحساسي لا يُخيّبني في كثيرٍ من الأحيان.

رشقتها جمانة بنظرةٍ ساخرةٍ لم تقرأها رغدة بشكل صحيح، وقالت: قُلتِها بنفسك، في كثيرٍ من الأحيان أي أن هناك نسبة خطأ موجودة! ثُمَ إنّ سوق المثالياتِ رائجٌ على وسائل التواصل!.

امتقعَ وجهُ رغدة لدى سماعها شيئاً عن احتمالية الخطأ، وظنّت لوهلةٍ أن صديقتها تحاول تبديد أوهامها قبل أن تتعاظمَ غيرةً وحسداً من عندِ نفسها، فافترت شفتيها عن ابتسامة صفراء وقالت: لا عليكِ من هذا كله، لا تهتمي فأنا أعرفُ ما أفعل.

عندما لاحظت جمانة انقباض نفس صديقتها ضحكت وقالت: فليوفقك الله وآمل أن يَصدُق إحساسك، على أيةِ حال أرسلي لي رابط حسابِ هذا الفريد من نوعه الذي ضخمتِهِ إلى هذا الحد، فلقد أصبحَ لدي فضولٌ قويٌ لرؤيته إن أمكن ذلك؟.

ابتسمت رغدة، وجال في خاطرها: هه! كما توقعت، ها هي تحاولُ الوصول إليهِ يا لها من مكيودة! ولكن لا، يجب أن لا تخبريها شيئاً عن شخصه! فقد تحاول استمالتهُ إليها!.

ونَطقت: حسنًا سأدعك ترين حسابهُ لكن ليس الآن.

حدثت الأخرى نفسها قائلةً: ما الذي جرى لسحنتها! لمَ انقلبت فجأةً أيعقل أن تكون قد فهمتني بشكل غير صحيح! أيمكن أن تظن بي سوءاً هذه الشيطانة، فيشطح بها خيالها بعيداً! أوه هذا غير ممكن، فلتذهبا معاً إلى الجحيم الذنب ذنبي أنا إذ ما كان علي التحدث معها بالعقل، أكان عليّ أن أهدهد على أوهامها وأسايرها في أحلامها.!، فأحنقها بشدةٍ أن تُسيءَ صديقتها فهمها، وشعرت من ذلك بإهانة، فقالت لها: افعلي ما تشائين ولا تحدثينني عنه بعد الآن.

وانطلقتا معاً دون أن تتفوّه إحداهما بكلمة إلى قاعةِ المُحاضرة.


٣

عند الأصيل قفلت رغدة راجعةً إلى منزلها، وفورَ وصولها أَحَسَتْ أمها بذلك، فقالت وقد ابتهجت بمقدمها: أهلًا بك يا ابنتي آملُ أنكِ قضيتِ نهاراً رائقاً في الخارج.

ابتسمت رغدة وقالت: أهلًا يا أماهُ الحبيبة نعم قضيتُ نهاراً جيداً... وفجأةً بينما هي تتحدث رن جرسُ الرسائل، فأخرجت رغدة هاتِفها، وعرفت أنّ إبراهيم خليل الشاب الذي ملكَ عليها جوارحها هو صاحبها، وهو يقول: مرحباً رغدة آمل أني لا أزعجك بتطفلي، فشعرت بلذةٍ كبيرةٍ وأردفت تقول لأمها: لكنني متعبةٌ يا أُماه ولن أستطيع مساعدتكِ في شؤون المنزل.

تعجبت الأم التي لم تعتد مثل هذا السلوك من ابنتها فقالت تخاطبها بنبرةٍ قلقة: أجرى لك شيئاً؟ أخبريني يا ابنتي؟.

هنا رأت رغدة أن من واجبها تغييرُ حُجتها إذا هي أرادت أن تُترك حُرةً هذه الليلة، وبرقت في ذهنها فكرةً وقالت: إرهاقٌ عاديٌ يا أَماه، كما أن عليَّ امتحانٌ يوم الغد لم أحضر له بشكل جيد.

دخلت غرفتها وأغلقت الباب وأقفلتهُ بالمفتاح، وبعد أن استبدلت ملابسها أمسكت هاتِفها وراحت تراسل إبراهيم خليل: أهلًا إبراهيم لا لا يوجد شيءٌ من هذا. وراحت تُفكر ريثما يرد فيما عساهُ يريد.

وبعدَ أن بدأا دردشتهما بأسئلةٍ شخصيةٍ معتادة في مثل هذه الحالات، راحا يتحدثان بعمق أكبر.

قالت رغدة: على أيةِ حال أنه لمن المدهشِ في زَماننا أن يكونَ الإنسانُ شاذٌ في تصوراتهِ عن الأنماط العامية!.

أتفقُ معك.

نعم. وسادت لحظة صمت، ليعود إبراهيم قائلًا من جديد: يبدو أنك تحبين القراءة؟.

نعم أُحِبها، وأردفت: وأنت؟.

فأجاب مدعياً منتحلاً: لا أعيش بدونها.

ابتسمت أمام شاشتها وسط الظلمة التي تُغرق الغرفة، وسألته: أتعرفُ رواية أحدب نوتردام لفيكتور هوغو؟.

قرأ الرسالة ورجع بعد صمتٍ خيمَ خمس دقائق: نعم، قصةٌ عظيمة تتحدثُ عن رجلٍ نشأ في كاتدرائية.

تجاسر إبراهيم فسألها: ماذا عندك الساعة الواحدة ظهر غدٍ؟.

-همممم استراحة.

-هل سترفضينَ لو قد دعوتكِ لشربِ القهوةِ في مقهى كُليةِ الآداب لإكمال نقاشنا؟.

اختلطتِ المشاعرُ، واضطربت في نفسِ رغدة ما بين خوف وفرح، وفَكَرت: لِمَ عساني أتردد وقد قرأَ سيرةَ الأحدب؟.

فكتبت: موافقة، وسأحملُ من مكتبتي كتابًا لفكتور هوغو كي أهديه لك.


النهاية

الساعة الواحدة إلا خمس دقائق كانت رغدة تَجلسُ على طاولةٍ في مقهى الكلية، تُقلبُ في الكتاب ريثما يصلُ إبراهيم ذاك الشاب المثقّف، في الوقت الذي وصل فيه إبراهيم باب المقهى وأخذ يجول في نظره بين الطاولات باحثاً عن فتاة تحمل ذات الكتاب، وهو يرسم في باله تصورات عدّة لشكلها متناهي الرقة، ولمّا لمح رغدة شهق شهقة مكتومة وأتبعها بلعنة، وغطّى وجهه بما كان يحمله من كتب، وولّى هارباً، أمّا رغدة التي حاولت التواصل معه عبر حسابه الشخصي الذي انقلب فجأة لصورة رمادية لا معالم لها، تركت الكتاب مكفيّاً على الطاولة على وجهه بعد أن وقفت عيناها عند جملة فيه تقول "وعندما صوَّر لنفسه السعادة التي كان يمكن أن تُكتب له في الحياة لو لم يكن قساً، ولو لم تكن الفتاة بوهيمية، عندما صوّر لنفسه هذه السعادة ذاب قلبه حنيناً ويأساً" فذرفت دمعة مُرّة تركت على الصفحة أثرها، وغادرت المقهى مسرعة وفي قلبها بؤس العالم كلّه.