الفصل الأول: قصتي مع القطط

مرحباً يا صديقي العزيز عمرو، أُكتبُ إليكَ خِطابي هذا وأنا جالسٌ في متنزه المدينةِ الكبير، حزينٌ مهمومٌ، وحيد ومُسوحش، أتأملُ في وجوه المارةِ عبر الطريق وأولئك القابعين فوق مقاعدهم، فهذا يمسك يد زوجته ويقتاد طفله، وذاك يجلس إلى جانب حبيبته يبادلها ضحكاتها العذبة، وآخر يضع طفليه في مقعد الأرجوحةِ ويروح يدفعهما في هدوء بينما يسألهما: أسُعداء أنتم يا بابا؟

وبينما أنا أُمعنُ نظري في تفاصيل الأزواج والأطفال، والعاشقين أتذكرُ حبيبتي التي فشلتُ في نيل حظوتها والزواج منها، وفجأةً ألمح قطةً صغيرةً في يد طفل فيتضاعف عذابي عندما أتذكرُ ما جرى لآخر قطةٍ ملكتها.


تعرفُ يا صديقي أنني غيرُ محظوظٍ البتةَ في اقتنائي القططَ، فقد خسرتُ قططي جميعها بنفسِ الطريقةِ تقريباً، إذ كانت تتسللُ من منزلي ليلًا لتهربِ إلى الغابةِ الفسيحة حيثُ يَعضّهَا الضبع وتموت، فلا حُسن معاملتي لها ولا قسوة الضبعِ وفتكهِ كانا ليثنيانها عن رغبتها؛ فكانت على ما يبدو محبةً للاستقلال والانفراد، لا تقبلُ مسكناً لها غير الغابة الفسيحة.


لكنّني كنتُ أغفل أو فلنقل أتغافلُ عن فهمِ سَليقتها فأختلقُ أسباباً غير واقعية، حيث كنت أقول: يا لسوء حظي! سأتوقف عن امتلاك القطط لأنّها تعافني سريعاً، ولكنّني برغم كل شيء لم يتغلغل اليأس إلى أعماقي، فبعد أن خسرتُ عدداً كبيراً من القطط بذات الطريقة، اشتريتُ واحدةً أخرى كانت صغيرةً جداً هذه المرة لأَضمنَ انتماءها لي، ولو تعرفُ يا عمرو كم كانت جميلةً هذه القطة، فما أروعَ شعرها الرمادي الطويل، وعيناها الزرقاوينِ كزرقةِ البحر، وشاربيها اللذين يُشبهانِ أوتار آلةِ الكمان، باختصار كانت آية في الإبداع.


الفصل الثاني: السياج

ومن بابِ الحيطةِ والحذر واقتداءً بالحكمةِ التي تقول: "لا تنتظر نتائجَ جديدة من نفس الخطط" سيّجتُ المنزلَ بسياجِ عالٍ يحول بينها وبين الغابة ويعترضُ طريقها إليها، وعندما كَبُرت قطتي صرتُ أطلقها في حديقةِ المنزل الصغيرة، ولشدَ ما كان سرورها عظيماً وهي تداعبُ الحشائشَ الخضراءَ بقوائمها وتتلسقُ جذوع الأشجار في جهدٍ كبير، أو تُلاحظُ خنفسةً كبيرة أو جُندباً فتأخذُ في تفحصّه بمخالبها الضعيفة، عندئذٍ قلتُ في نفسي: أوه لقد نجحتُ أخيراً في امتلاك قطةٍ لا تُضجرها صُحبتي!


ولكنني اكتشفتُ عندما كَبُرت قطتي واشتد عودها وقويت مخالبها عدم صحة اعتقادي إذ بدأت تزهدُ في رفقتي والبقاء إلى جانبي، وأزعم أن السبب هوَ أنها تسلقت إحدى الأشجار السامقة حتى بلغت قمّتها، وراحت تتأملُ الغابةَ بعينين متطلعتين، ونفسٍ تشتهي أن تَعب من هواء هذه الغابة عباً، وأخالها قالت في نفسها: الحياةُ مع صاحبي جميلةٌ لكن العيشَ في هذهِ الغابةِ الكبيرةِ التي تعجُ بمختلف أنواع الأشجار، وشتى صنوف الأطيار لهيِ أمتعُ وأجملُ ألفَ مرة من الحياةِ التي أحياها بينَ جنبي هذا السياج.


ومنذ أن هبطتِ الشجرةِ فقدت شغفها في أعشاب الحديقةِ وأزهارها، ولم تعد تشتهي طعامَ القطط المعلّب الذي أقدمهُ لها، وأخذت تضيقُ ذرعاً بي، وفي الآونةِ الأخيرةِ بدأت تفقد حيويتها وهمتها ونشاطها، وذاتَ يومٍ أخذت تنظرُ في عينيَّ وبدأت في المواء بصوت واهنٍ فكأنها تقول لي: أضرعُ إليكَ يا صديقي أن تدعني أمضي إلى الغابة. فتملكتني مشاعر الخوف والدهشة، وصحتُ أقول فَزعاً: ما كنتُ أتوجسُ منهُ قد وقع بالفعل! فاستلقيتُ إلى جانبها على عشب الحديقةِ وقلتُ لها: أهكذا يا قطتي العزيزة! تهونُ عليكِ عشرتنا الطويلة! وترغبين بتركي وحيداً آخر الأمر؟.

فأومأت برأسها وكأنها تقول: نعم وماذا في ذلك!.

فقلت بنبرةٍ حزينة: أَأُقَتّرِ عليكِ يا قطتي في الطعام؟.

فَأصدرت من جديدٍ مواءً تريد أن تفهمني منه أن: لا.

فنظرتُ في عينيها الجميلتين المكتئبتين وخاطبتها: هل أبتاعُ لك بعضَ الفئران وأطلقها في الحديقة لتتسلي بمطاردتها؟

ومن جديدٍ مَوّت وهي تهز رأسها في الاتجاهين: لا، لا أريدُ شيئاً من هذا.

وسألتها وأنا خائِف: إذن ما الذي تنشدينهُ؟

فأومأت برأسها باتجاه الغابةِ وأخذت تموء، ولكي تتأكد من أنني أفهمها راحت تعدو نحو السياجِ فاستندت عليه بقوائمها الأمامية، وصارت تخرمشهُ بما تملك من مخالب.

ونهضتُ ومضيت إليها وأنا أتنهدُ، وقلت: آهٍ أيتها المسكينة إنكِ لا تعلمين ما الذي ينتظرك هناك ثمةَ الكثير من الضِباع في الغابةِ التي لا يروقها وجودكِ على أرضها، ثمّ إنّك ضعيفة ولا تقوين على الوقوف في وجهها، وستموتين بعضةٍ من أنيابها المدببة!


ولمّا قلتُ لها ذلك، أخذت تعرضُ مخبالها وتريني أنيابها في مشهدٍ جد مضحك، فكأنها تقول: أنا أيضاً لدي أسلحتي التي يمكنني الدفاع بها عن نفسي!.

فجلستُ أمامها القُرفصاء، وقلت: ولكن الضِباعَ تبلغُ من القوةِ والجبروت ما يفوقُ تصوركِ عنها، فهي تُملكُ فكاً قوياً جداً، وإنك لا تعلمين ما الذي جرى مع قططي السابقة، آخرُ واحدةٍ منها عندما فَرّت إلى الغابةِ هاجمتها الضباع، وظلت تُعاركُهم ببسالةٍ حتى تحلق القطيعُ حولها وقطعوها إِرَباً مع أنها تفوقك حجماً وقوة!.

لكن كلامي لَم يزدها إلا عِناداً، فعادت إلى السياج وأخذت تُخرمشهُ بقوةٍ أكبر حتى تركت آثارها عليه هذه المرة: رُغم كل شيءٍ لا بأس دعني أذهب إلى الغابة يا صديقي الفاضل.


الفصل الثالث: ذهبت من غير رجعة

فشعرتُ بِحيرةٍ عظيمة وضربتُ جبيني براحةِ يدي ورحتُ أقول: أووووف، مُصرّةٌ أن تمزقها أنياب الضباع لكن لا لا لا سأمنعُ حدوثَ ذلك بما بكلِ ما أَملكه من قدرة.

عندئذٍ حملتُها على ذراعي وأحكمتُ قبضتي عليها، وفتحتُ البابَ المُفضي إلى الغابةِ وسرتُ مبتعداً فيها بينَ الخمائل والأَجماتِ، وقلتُ لها: املأي عينيكِ منها يا قطتي العزيزة.

وأخذت القطةُ تتأمل المناظر والصور بدهشٍ كبير وحاولت غير مرةٍ أن تقفز من ذراعي إلى أوراق الأشجار التي تغطي أرض الغابة وتهرب، ولما شددتُ قبضتي على بطنها أكثر رفعت بصرها إليّ وأخذت تموءُ مواءً فهمت منهُ: أرجوك يا صاحبي دعني أنطلق مبتعدةً في الغابة.

فقلتُ لها بحنقٍ: يا لغبائك، ألهذا الحد تودينَ تلبيةَ رغبة الموت!


ولما سَمعتُ أصوات الضباع من بعيد أدرت ظهري وأسرعتُ عائدًا للمنزل، ولمّا وصلت كان الظلام قد هبطَ فأدخلتها حُجرةً مُظلمةً وأقفلتُ دونها الباب وعدتُ للمنزل.

في الصباح فتحتُ باب الحُجرةِ وتجولتُ ببصري داخلها، فلم أجد القطة ناديتها عسى أن تَخرجَ من رُكنها المحتجب عن البصر ولم ترد فدخلتُ الحجرةَ، وتفاجأتُ بأن النافذةَ المُطلةَ على الشارع كانت مفتوحةً فأسرعتُ نحوها ونظرتُ منها إلى الشارع العام فما كان أمضَّ ألمي عندما وجدتها مُتلصقةً بالأرضيةِ الإسفلتيةِ وإطارات السيارات تروح وتجيءُ من فوقها!.