طه

استيقظت عائلةُ الحاج محمود وهو رجلٌ فقير الحالِ صبيحةَ يوم الجمعة لتأديةِ صلاةِ الفجرِ ولم تَعد إلى نومها كما اعتادت كلّ يوم؛ لأن بالها كان منشغلًا هذا الصباح في نتائجِ الثانويةِ العامة التي ستصدرُ بعد ساعات قليلة.


بعد الانتهاء من الصلاةِ أخذوا جميعاً بالدعاء لابنهم طه بالنجاح، وقالت الأُمُ نبيلة: تَقبّل الله صلاتنا يا زوجي وأنتم يا أبنائي، وتوجهت لصغرى بَناتها قائلة: أَعدّي لنا القهوةَ يا سُعاد، ولا تُكثري من السُكر من أجل والدك.

رفع الحاجُ محمود نظرهُ عن سجادة الصلاة ونقلهُ صوبَ ابنه طه فوجدهُ عابساً منكمشاً على نفسهِ مُطرقاً إلى الأرض، فقال له: ماذا دهاكَ يا بُني،لا تَخَف من النتيجةِ مهما كانت!.

رَفع طه رأسهُ وزفرَ زفرةً كئيبةً وقال: يا أبتِ أنا كمن ابتلع سكينًا ذا حدين سواء أنجحت أم لا.

هطلت دموعُ الأمِ بعد أن سمعت كلام ابنها، وردّ الحاج محمود وقد انقلبت سحنتهُ: لماذا تُعذبنا بحديثك السوداوي يا بنيّ، أينقصنا أنا وأمك؟.

حديثي سوداويٌ يا أبتِ! حاشا لله فلتعلم أنّ مردّ سوداويتي هو واقِعُنا المُعدم، فأنا إن نجحت والأملُ في ذلك كبير من أين لي أن أُكمِلَ دراستي الجامعية ونحنُ لا نملكُ من الدنيا إلا ما بالكادِ يقيمُ أجسادنا؟ أنا أعرفُ تمام المعرفةِ أنكم تحاولونَ إعمائي عنها تجنباً للآلام لكنني أنا طه لا أستطيعُ ذلك.

نظرت نبيلة إلى زوجها تترقبُ بضراعةٍ أن يُعيد الهدوء والسكون إلى قلوبهم بعد أن بددهُ طه، فقال: نحنُ يا بُني نُسلّم أمرنا لله عز وجل فإذا شاء أن تنجح فستنجح وإن شاء أن تُخفق فستخفق، وإن شاء ستنجح وستكمل دراستك الجامعية بعد أن يهيّئ الله لكَ من الأسباب ما يجعلك تُكملها رغم كلّ الظروف التي تحول بينك وبين دخولك الجامعة.

عادَ وجهُ نبيلةَ إلى سابق عهدهِ مُنبسطَ القسمات بعد أن اكفهر وتَقبّضَ من كلام ابنها، ولمّا دخلت ابنتها تحملُ في يَدها فناجين القهوةِ قالت: سَلمت أناملكِ يا ابنتي العزيزة.


٢

عقب الساعة العاشرةِ صباحاً بوقت يسير أخذ بابُ عائلة الحاج محمود يُطرق بقوة وبوتيرةٍ ما تنفك تزداد، فانطلقت نبيلة وسعاد وطه يتسابقون على فتحه، وعندما فُتحَ طَلّت الجارة أم عبدالرحمن، وصاحت فَرحةً: لقد نجحَ ابنكِ يا نبيلة.. نجح افرحي يا نبيلة، فاقد جاء ابني عمر من المدرسةِ للتوّ وهو يقول أن كشفَ الناجحين عُلّقَ عند الساعةِ التاسعة هذا العام، أي أبكر من كل عام.

عندما سمعت نبيلة ذلك من أم عبدالرحمن عانقت ابنها طه بحرارة وقالت والدمعُ يغرق عينيها من الفرح: يا بُنيَّ الحبيب لقد رفعتَ رؤوسنا مباركٌ نجاحكَ يا حبيبي، مبارك.

انسلَّ طهَ من بين ذراعي أمه بعد أن قبّل جبينها وخرجَ من الغرفةِ بَحثًا عن والده، وأمسكت يدُ نبيلة يد الجارةِ وشدتها نحو الفراش وقالت: تعالي لنجلس، سامحيني أيتها الجارة الغالية فلقد نسيتك، ولكنكِ كنتِ سبباً في إدخالِ أكبر قدر من السعادة إلى قلبي في حياتي كُلها لهذا نسيت نفسي، أنا أشكركِ بحق يا أم عبدالرحمن، ولكن لم تخبريني ماذا حَلَّ بابنك؟ قالت نبيلة ذلك ولم تُفلت يدها رغم أنهما جلستا،

-لقد نجح عمر ابني أيضاً يا نبيلة. ولدي عمر أيضًا نجحَ يا نبيلة.

-باللهِ عليك؟ ياه كم يسعدني سماعُ ذلك، فليباركهما اللهُ يا جارتنا.

-آمين، والآن اسمحي لي بالرجوع للبيت فكما تعلمين عليَّ تجهيزُ البيت، وقد أرسلتُ عمر لجلبِ الحلوى للضيافة قبل أن يُقبل المهنِئون.

وتذكرت نبيلة أن عليها فعل هذا أيضاً، فقالت وهي ترافقها إلى الباب: مع السلامة يا جارتنا.


٣

كانَ الحاجُ محمود وابنهُ يتبادلانِ الحديثَ عندما دخلت نبيلة الغرفة، فأسرعت تقولُ لسعاد بنزق: هَيّا يا سعاد هيّا ليس هذا وقتُ المرحِ، علينا تنظيفُ المنزلِ قبل حلول وقت الزيارة، وراحت تقول لزوجها: رَتّب مع ابنك أمور الضيافة فليس معنا من الوقت الكثير.

عندما سمعَ الأبُ هذا من زوجتهِ اكفهرّ وجههُ وتوغّرَ صدرهُ، فقال يخاطبُ طه الذي لاحظ التبدل الذي طرأ عليه: معيَ ستةُ دنانير دينارٌ أجرةُ الطريقِ ذهاباً وإياباً، وبخمسة دنانير تبتاعُ ثلاثةَ أنواعٍ من الحلوى، ومدّ المال إلى طه.

تناولهُ طَه وهو متجهم النفس، وقال لأبيه: إذا كُنّا نعاني معاناةً شديدةً لتأمينِ اليسير من المالِ لشراء بعض الحلوى، فكيفَ نأمل تَوَفّرَ المال للدراسة الجامعية أنا لا أفهم؟.

تنهدَ الأب، وقال: لا أكرم من الله يا بُني.

دمدمَ طه وهو يخرجُ: همممم مع ذلك أظنُّ أن عليَ تَعلّمُ مهنةٍ اعتاش منها فأصبحُ من أصحاب المهن، أما الدراسة الجامعيّة هذه فعليَ إزالتها من رأسي تماماً.


٤

انطلقَ طه يسير على قدميهِ ينشد الطريق العامة ينتظر مركبةً تُقلهُ إلى السوق، وأثناء سيرهِ لمحهُ ابنُ صاحبِ وكالةِ الغاز فاقتربَ منه وجاراهُ في سيرهِ وكان طه لا يحبه، وقال: سمعتُ أنك نجحت في الثانويةِ العامة! هل هذا صحيح؟.

فأجاب طه وهو يديرُ وجههُ للناحية الأخرى: أجل نجحت.

فأردف ابن صاحب وكالة الغاز بخبثٍ ومكر: لكنكَ ويا للأسف لن تستطيع إكمال دراستك ها ها ها.

فقال طه بحنق: أغرب عن وجهي الساعة!.

حسناً حسناً سأذهب، كلّ ما هنالك أنني أردت إخبارك من باب حُبي لك أنّ والدي بحاجةٍ إلى حَمّالِ اسطوانات إن كنت ترغب بذلك ها ها ها. قال ذلك وتركهُ.

زفرَ طه زفرةً حرة، ونظرَ إلى السماء، وقال: رحمتك يا رب!.

وفي الأثناء وصل الطريق العامة وانتظر قليلًا ثم جاءت الحافلةُ فصعدها.


٥

وصلَ طَهَ السوق وأخذَ يتمشى طويلًا بينَ المتاجرِ والأسواق التجارية، ونفسهُ مثقلة تحت وطأةِ الهم والغم، وبينما هُوَ سائرٌ عثرَ أخيراً على متجرٍ للحلوى، فدخلهُ وقالَ لصاحبهِ وكان شيخاً أبيض الشعر: أُريدُ يا عمّاه بدينارينِ من هذا الصنف، ودينار ونصف من ذاك، وبمثلِ هذا المبلغ من هذا أيضاً.

فقالَ الشيخُ ببشاشة: عيناي لك أيها الشاب، ونادى على الموظفِ وأمرهُ بتعبئةِ الطلبِ في العُلب.

ووضع طه يده في جيوبه ليخرج المالَ، وبعد بحثٍ طويلٍ لم يجده؛ فاحمر وجههُ خجلًا حي صار بلونِ الدم، فقال لنفسه: يبدو أنني أضعتهُ أثناء مشيي في السوق! ألا ما ألعن حظي!.

وعندما لاحظ الشيخ اضطراب الشاب سألهُ: يبدو أنكَ نسيتَ المال في المنزل؟.

فابتلع طه ريقه وقالَ بصوت متكسِّر خجول: بل ضَيّعته أثناء سيري في السوق، أعتذرُ بشدةٍ لإزعاجكم في تعبئة طلبٍ لن آخذه، آهٍ يا عماه ما أسوأَ حظي، فلقد نجحتُ اليوم في الثانوية العامة، وعلاوةً على عجزي عن الدِراسةِ بسببِ المال هَأنذا أُضيّعُ مالَ الضيافة!. قال ذلك وَهَمَّ بالخروج، فأوقفهُ الشيخ وقال بعينين ذاهلتين وابتسامة ارتسمت على شفتيه: بل إنكَ لمحطوظٌ جداً يا بُني، وكما يقال كلُ شيءٍ يحصل بهدف ولهدف، ولا مكان للصدفةِ في أقدارنا؛ فالبارحةُ مساءً زارني هنا مُحسنٌ وأخبرني أنهُ ينوي التكفّل بتكاليف الدراسةَ الجامعية لثلاثة طلاب عاجزين عن تأمينها، وها أنت هنا لأضعُكَ في القائمة التي كَلّفني بإعدادها، سبحانك يا الله ما أعظم شأنك!


ذُهل طه من هول ما سمع، وتذكّر كلام والده صباحاً، ولم يفيق من صدمته هذه إلّا على صوت العجوز وهو يقول له ضاحكاً: ها يا بني أستقف مذهولاً هكذا كثيراً؟ هيّا، قلّي ما اسمك الكامل؟ وما رقم هاتفك؟

أعطى طه الرجل العجوز ما طلبه من معلومات، وقفز عائداً يحملَ عُلبَ الحلوى التي قدمها التاجرُ كهديةٍ له، مع أجرةِ الإياب ليزفَ البشارة الثانيةَ لعائلته.