البداية

على أرضٍ زراعيةٍ ذات تربةٍ حمراء تقرب طبيعتها لأن تكون جبليةً بين شتى أنواع الأشجارِ وألوان المزروعات، وعلى مقربةٍ من أخشاشِ الحمامِ وأقنان الدجاجِ يقوم منزلُ الفلاح الريفي عُمر، وهو رُجلٌ قويُ البُنيةِ مستقيم القامةِ رغم أنّ عمرهُ ناهزَ الستين، ولطبيعةِ عمله واشتغالاته أثرٌ في احتفاظه بقوته ونشاطه وهو في هذا السن، إذ كان يقومُ بأعمال بدنية مجهدةٍ في الزراعة وتربيةِ الحيوانات مُذ كان طفلاً حتى بلوغه هذا العمر، وكانَ من عادتهِ الممجوجةِ بالنسبةِ إلى أهلِ بيتهِ استبداده، وغلظته وقسوته، وصرامته، فكانَ إذا ما جافاهُ النوم يحرمُ زوجته وبناتهِ السبع منهُ مبقياً إياهنّ حولهُ حتى يزورهُ النعاس مهما تأخر، أما إذا استيقظ في الثلث الأخير من الليل وحرمهُ القلق من معاودة النوم فكان يوقظهن كأنَ النهار قد ابتدأ، فيروح يأمر زوجته بأن تعد طعام الفطور وبناته أن يشرعن في تنظيف المنزل وعندما ينتهينَ يظلّ يتحدث إليهنَ عن مُغامراتهِ وذكرياتهِ إبانَ الشباب حتى مطلع الفجر.


الفصل الأول

وفي يومٍ شتويٍ ماطرٍ، استيقظَ الشيخُ عمر وقد كان نومهُ خفيفاً بحيث تكفي أن تموء قطةٌ صغيرةٌ حتى يستيقظ، على وقعِ دويِ رعدٍ قد ضربَ الأرجاء، فشهقَ في بطءٍ شهقةً قويةً وحكَ رقبتهُ وأغمضَ عينيه من جديد في محاولةٍ للنومِ لكن زمجرةَ الرياح القوية، وقرقعة حبات المطر الساقطة منعتاهُ عن مراده، فأبعدَ عنهُ بتؤدةٍ غِطاءَه وتَمطى ونظرَ إلى زوجتهِ التي تنامُ في فراشٍ خاسفٍ بالٍ في أقصى ركنٍ من الغرفة، ونادى بصوت خشنٍ أجش: رسمية..رسمية انهضي رسمية!.

لكن رسمية لم تستيقظ من نومها، فنهضَ وتمطى مجدداً وسارِ نحوها، ووضع باطنَ قدمه على كِتفها وهزها وهو ينادي: رسمية!.

وفتحت رسمية عينيها بصعوبةٍ ونظرت من بين جفنيها إليهِ، وجلست منهضةً جذعها وقالت: أسعد اللهُ صباحك يا زوجي، ولما سمعت همهمة المطر اغتبطت قائلةً: إذن لن نستطيع الخروج إلى الحقلِ اليوم؟.

وأجاب عمر مُقطباً بعد أن أزاح الستارةَ ورَمق خيوط البرق ترتسمُ في الأفق: مما يؤسفُ له أنه ليس باستطاعنا الخروج للعمل هذا النهار، واستدارَ نحوها وأردف: اذهبي لإيقاظ البنات.

فقالت رسمية سائلةً: لمَ لا تَدعهن يكلمن نومهن حتى الصباح بما أنَّ المطر سيصرفنا عن العمل اليوم؟.

فقال الشيخُ عُمر ساخراً من تفاؤل رسمية الساذج: حرمكنَ من العملِ في الحقل لكنهُ لم يحرمكن إياهُ في المطبخ! ثُمَّ إن الحَمامَ والدجاج في حاجةٍ إلى إطعام! ها ما رأيكِ أن نتركهُ من دونِ طعام حتى يفطسَ من أجل رغبتكنّ في التَنعِّمِ في العِطالة!.


فطأطأت رسمية رأسها دون إلحاحٍ أو محاججة لعلمها بعدمِ جدواهما مع طبعٍ عنيدٍ كطبعه، ومضت للغرفةِ المجاورةِ وأخذت بحنانِ الأم وعاطفتها توقظهن قائلة بعد أن أشعلت النور: هيا يا بناتي الحبيبات استيقظنَ تلبيةً لرغبةِ والدكن يا بناتي الحُلوات لكنّ عندي مفاجأةً هيا استيقظن يا عزيزاتي. ولمّا كُنَّ متعوداتٍ على اليقظة مبكراً فلم تأخذ العملية من رسمية أكثرَ من دقيقة.

وقالت إحداهن وهي تفركُ عينيها: ما هي المفاجأةُ يا أمي؟.

فقالت رسمية مبتسمةً: انهضن أولاً لأخبركن.

ولما نهضنَ ورحنَ يتمطين وهنَ يطوينَ أغطيتهن ويصففنها في تجويفٍ في جدار الغرفةِ، قالت رسمية محبورةً: لن تضطررن اليومَ للخروج إلى الحقل والعمل فيه.

فقلنَ مسروراتٍ سعيدات: حَمداً لله أننا لن نشقى هذا اليومَ أيضاً في الحفرِ، والعزقِ، والقِطاف وملء السلال وحملها.

فقالت رسمية: اتبعنني إلى المطبخ لنعد الفطور يا بنات.


الفصل الثاني

وضعتِ الأمُ على الأرضِ صينيةً احتوت بيضاً مقلياً وفولاً مملحاً مسلوقاً، وأرغفةً من الخبزِ، وإبريقاً من الشاي ودعت زوجها وبناتها للتحلّق حولها، وعندما جلسوا وبدأوا بالأكلِ سألَ عُمر بعد أن أمسك في يدهِ رغيفاً وتلمسه بأصابعه: كم رغيفاً بقيَ من خَبزِ المرة الأخيرة؟.

فقالت رسمية: لم يبقَ سوى هذه الأرغفة.

تمهل عمر حتى انتهى من مضغ اللقمة وسقوطها في جوفهِ وقال: هذا يعني أننا في حاجةٍ لخبزِ أرغفةٍ جديدة لليومين القادمين؟.

ونَظرَت الفتياتُ في وجوهِ بعضهن نظرةً ساخطةً، وقالت الأم: هذا صحيح!.

وعندما انفجرَ صوتُ الرعد من جديد أضاف: الطقسُ البارحةَ لم يكن ينذرُ بشيءٍ مما نسمعهُ الآن! سُبحانكَ يا رب!.

َوبعد برهةِ صمتٍ قالت إحدى بناته: أُحيطكم علماً أن المستودعَ خالٍ من الحطب، فلقد أشعلنا آخر ما بقي فيه للخبزِ منذِ آخر مرة!.

عندما سمعَ عُمر ساءهُ ذلك فنظر إلى رسمية وخاطبها بخشونة وشراسةٍ وغلاظة: كيفَ لم يبقَ حطباً في المستودع، ماذا سنفعلُ الآن في هذا الطقسِ الرديء تحت وابلِ المطر؟.

فقالت رسمية وقد احمرَّ وجهها، واكتست ملامحها الخجل من جرّاء إحساسها بالذنب: لقد نسيت أو بالأحرى كنتُ أحسب أنني سأجلبهُ اليوم إذ لم يكن باستطاعتي أن أقدّر وصول عاصفةٍ مثل هذه، على كل حال قاتل اللهُ الشيطان.

تَبرّمَ الشيخُ وقال بجفاء: إذن فلتضعي ما خططتِ له موضعَ التنفيذ مع بزوغ الفجر.

َونظرتِ الفتياتُ إلى بعضهنَ نظرةَ المعارضاتِ لاستبداد الأب وقسوته، واكتفين بها لأنهنّ لا يستطعن أن يفعلنَ أكثر من ذلك.


الفصل الثالث

تَجهزَّ الأبُ للدخولِ إلى المستودع المُلحقِ خارجاً في أحدِ أركان البيت لإطعام الحمام والدجاج، وجمعِ البيضِ وأعطى قبيل نزولهُ أمراً لزوجتهِ بالخروجِ إلى البريةِ لجمعِ الحطب، لكن قبل خروجهِ اعترضتهُ كبرى البنات وسألت والدها بضراعةٍ قائلةً: دعنا نُرقبُ من النافذةِ توقف نزول المطر، ثمَّ تنزل وأرافقها لإعانتها يا أبي؟.

فتجهمَ الشيخُ وأربدَ وجههُ قائلاً: لا تناقشيني، أمكِ أخطأت وستدفع ثمنَ خطئها، إذا تساهلَ الواحدُ منا إزاء حماقة ارتكبها إنسان فسيدفعُه هذا إلى ارتكاب مزيد من الحماقات!.

وعند البابِ تجمعتِ الفتياتُ حزينات مكموداتٍ، وأخذن يربتن على كتف أمهن ليشددن من أزرها حتى فتحتِ الباب وخرجت تحتَ المطر.


الفصل الرابع

على مقربةٍ من المستودعِ شاهدتْ رسمية بملابسها المبتلةِ غُصناً يابساً جديراً بالقطعِ فمدت يدها المرتجفة من البرد ورفعت قدميها حتى وقفت على أطرافِ أصابعها وأمسكتهُ وأخذت تشد باغيةً كسره، وفي الأثناءِ لمعت في الأجواء صاعقةٌ أصاب آخرها يدها فندت من فمها صرخة موجعة وخرّت على الأرضِ ساقطة.

عندما سمعَ عمر الصرخة تراجعَ إلى باب المستودع وفي يدهِ قبضة من الشعير، وأجال نظره مستطلعاً في الأرجاء وصوت الرعد المهيبِ يتفجر في المحيط، ولمَح بغتةً رسمية تفترشُ الأرض بلا حراك فأسقط الحبوب من يده وهرعَ نحوها، وقلبه يكاد أن ينفطر خشيةً عليها.


النهاية

تحت المطر الذي يتساقط بغزارة لاحظ عمر ازرقاقاً شديداً في يدها وأخذ يهز رسمية بكلتا يديه هزاً خفيفاً وهو يستجدي منها رداً لكنها لبثت صامتةً مغمضةً عينيها، فحملها بكلتا يديهِ وركضَ مسرعاً نحو العربةِ الموجودةِ في المستودع ووضعها فيها، وراحَ يسحبها بيديهِ مُتجهاً نحوَ الطبيبِ الشعبي في القرية، وبينما هو في طريقهِ إليهِ أخذَت تُخيّمُ على فِكرهِ حقيقة الفقد بقوةٍ لم يشعر بها من قبل، فاستبد به عذابٌ لم يختبرهُ قبل الآن، وأخذ يحدّث نفسه وقد سيطرت عليه مشاعر اللومِ والتأنيب والتقريع: طوالَ فترةِ زواجي من رسمية وأنا أعذبها وأهينها رغم أنها كانت تكدحُ معي سواء بسواء دون أن ينالني من جانبها أي تصرفٍ سيء أو كلمة جارحة! وها هي ذي بين الحياة والموت بسببِ قسوتي التي كنتُ أشمخ بأنفي من خلالها! آه يا رب ليتها تعيش ليتها تعيش يا رب، وأحلفنّ أنني سأعطف عليها، وأسمعها كلاماً طيباً، ولأعبرن لها عن حبي وشكري وامتناني، يا رب اجعلها تتجاوز هذه المحنةَ بسلام، واختلطت دموعهُ بحبات المطر وتقبّضَ قلبهُ مرتعباً من احتمالية سماع كلمة ماتت من طبيب القرية، فأخذ يدير رأسه أثناء السير وينظر إليها، ورفعَ صوته مخاطباً رسمية المغشي عليها بصوته المتكسّرِ من جراء نشيجه الذي يتردد من صدره: لقد كنتُ وحشاً كاسراً يا أُمَّ بناتي، لقد أردتُ الانتقام منك لأنكِ لم تنجبي لي ولداً رغم أنّ هذا ليس ذنبك إنما هي إرادة الله، لقد كنتُ أحمقاً يا شريكةَ حياتي أرجوك لا تتركيني وحيداً أُكابد عذاب الضمير، ولوعة الوحشة ومرارة الفقد ووخز الضمير.


ولشدَ ما عاناهُ عمر عندما خرجَ الطبيب الشعبي من دكانه ووضع أصابعه على يدِ رسمية ليجس نبضها، فقال مُطرقاً رأسه: لا نبض!.