صداقة

دَقَّ جرسُ آخر حصةٍ، فَتدافعَ الطلبةُ خارجينَ من الصَف، ووقفَ محمد في الدهليز ينتظرُ زميلهُ الذي صادقهُ من جديد، ولمّا لَمحهُ في الطريق إليه بشَّ وجههُ وانشرحَ صدرهُ، وقالَ وقد ارتسمت على وجههِ ابتسامة: هَيّا بنا يا صديقي لنسير معًا في طريق عودتنا للمنزل.


فقال حسين بعدمِ اكتراث: أجل.

وأردف محمد يقول: لَشَدَّ ما سررت عندما قلتَ لي أنَّ طريقنا واحد، فهذا يخفف عني وحشةَ الطريق.

-هِمممم، قُلتَ لي أنكَ انتقلتَ حديثًا إلى حارتنا أليس كذلك!.

-نعم هذا صحيح، فلقد توفي جدي الذي يسكن هذه المنطقة وكان حظنا من تَركتهِ منزلًا.

-لم تقل لي من أينَ انتقلت؟.

-من المدينة يا صديقي.

-همم لم أُجربِ العيشَ في المدينة، إنني أغبطك لأنك عِشتَ هذه التجربة الفريدة!.

عقد محمد حاجبيه وقال مُنكراً على صاحبه ذلك: صَدقني أنكَ بِغنىً عن هذه التجربة!.

-أإلى هذا الحدِ كنت تكرَهُ العيش هناك!.

-أجل كنتُ لا أطيقها.

-ولمَ ذلك؟ مع أنّ في المدينةِ كُل ما يمكن أن يخطر ببال الإنسان من صنوف المُتعِ، وألوان الشهوات!.

-رُبما يكون هذا من إيجابيات المدينة، لكنكَ تتناسى السلبيات، هَل يمكنك أن تحزر سلبيةً واحدة فتذكرها لي؟.

-حَكَ حسين رأسهُ وأغمض عيناً واحدة وقال بعد أن لبث لحظةً يفكر: هممم لا أظنُ أن للمدينةِ سلبيات، وليتني من ساكنيها.

-هكذا إذن!.

-أجل أجل.

-لا يمكنكَ الحكمُ على شيء قبل أن تختبرهُ بشكل شخصي!.

-أخبرني أنت.. ما هيَ سَلبياتها بنظرك؟.

-همم قلةُ المساحات الخضراء الطبيعية.

-قاطعهُ حسين ضاحكًا: هأ هأ هأ ولكن يوجدُ حدائق عامة، ثُم إنه ليس من الضروري وجودها.

-لا تُقاطعني، تلوث الهواء والضوضاء

-قاطعهُ مجدداً بنبرةٍ جادةٍ: هذه كلها ليست شيئًا ذا بال.

-يا صديقي القولُ شيء والتجربة الذاتية شيء آخر!.

-دَعني أخبرك عن المدرسةِ التي درست فيها هناك.

-أسمعك.

-المدارس هناك يا صديقي تزدحم بالطلبة، تَخيّل أن صَفّي لوحده كان يضم قرابة الخمسين طالباً!.

-أوف!

-نعم، أنتم هنا في نِعمة.

-هل كنت تملكُ أصدقاء هناك؟.

-ساء محمد أن يسألهُ حسين هذا السؤال، فكأنما أحيا فيه ذكرى لا يريدُ أن يتذكرها، فقال بنبرة حزينة: كان لي صديق.


تساءل حسين بغير كثيرٍ من الاكتراث: ما لكَ تغيرت نَبرة صوتَك؟ هل أنت حزينٌ لفراقهِ إلى هذا الحد؟.

تنهد محمد وقال: لستُ حزينًا على فراقهِ بقدرِ حُزني على الكيفية التي انتهت بها علاقتنا.

نَظرَ حسين إلى محمد نظرةً مستطلعةً كأنَما يسليهِ حديثُه، وقال: قل لي كيف سارت الأمور حتى آلت صداقتكما إلى النهاية؟.

حاول محمد أن يحبسَ دموعهُ وأجهد نفسه على الحديث فقال: أتصدقني إذا قلتُ لكَ أنني لا أدري؟.

-هممم نعم أصدقك ولكن كيف يمكن لذلك أن يكون!.

-زفرَ محمد زفرةً حرّى وقال بألم: كنا أنا وهو مثل الأخوة، وأنهينا المرحلة الابتدائية والإعدادية ونحنُ نجلسُ على مقعدٍ واحد، ولطالما مشينا ولعبنا ولهونا وركضنا معاً، وما أكثر المرات التي تصافحَ فيها كفّانا بشدةٍ أثناء المسير!.


قال ذلكَ وصمتَ وهو يتلمظ شفته السفلى، ونظر حسين إليه وعرفَ أنّ هذا الموضوع قد ترك في نفسه جرحاً عميقاً لكنّه لم يستطع أن يفهم سبب حزنه، فقال يطالبهُ بإكمال القصة: ثُمَّ ماذا حدث يينكما؟.

فقال محمد: بعدَ ذلكَ انتهت السنةُ الدراسية وأقبلت العُطلةُ الصيفية، فقال لي أنهُ يريدُ قضاءها في بيتِ جدهِ الذي يقعُ على مقربةٍ من منطقةٍ أثرية مع أولاد عمومته، فحزنت ممّا قد عزم أمرهُ عليه، ورحت أقول لهُ من باب التحفيز والتحميس أن الإجازات الماضية التي قضيناها معًا كانت ممتعةً ورائعة، فلماذا لا تظل هذه العطلة أيضاً؟. لكن محاولاتي جميعًا بثنيهِ عن قرارهِ باءت بفشلٍ ذريع.

قاطعه حسين بنزق وقال: ألهذا السببِ أنت غاضبٌ منه، ألّا ما أشد أنانيتك ورغبتك في السيطرة!.

-لا تتعجل بالطبعِ لا، سأكمل مَرّت العطلة عليَّ آنذاك بطيئة مملةً شاقة من دونه، ولشدَ ما فرحتُ باقتراب نهاية العُطلة؛ لأن وقت عودة صديق الطفولة قد أَزِف، لكن ويالَسخرية القدر حدث ما لم يخطر لي على بال.

جحظت عينا حسين وهو ينطق بحماسةٍ: أكمل وماذا بعد!.


بعد ذلك تفاجَأتُ بمقدمِ أحد أبناء عمومتهِ معهُ بعد أن حثّهُ صديقي على مرافقتهِ والمبيت معه في غرفته، فقدّمَ طلب انتساب للمدرسة وصار تلميذاً فيها.

قال حسين بتعجب: وصرتم ثلاثتكم أصدقاءً؟.

فأردف ونياط قلبه يكاد أن ينقطع من الكمد والشجن: بعد ذلك لم يعد صديقي يعرني اهتمامهُ إذ تجاهلني تمامًا وكأني شخص غريب لم يسبق له أن عرفه من قبل واكتفى بصحبة ابن عمه!.

كان محمد وحسين يحثّان الخطى إلى منزليهما أثناء حديثهما، وكان بيت حسين يبعد بخطوات يسيرةٍ عن بيت محمد، وفجأةً ظهر تمليذٌ تربطهُ صلةٌ بحسين، فقال يخاطبُ الأخير: أوه أنتُ هنا عزيزي، ونظر بمكرٍ وسخريةٍ إلى محمد وأردف: ولكن من هذا الذي يسيرُ مَعك؟.

فابتسم حسين بخبثٍ وقال لصاحبهِ: طالبٌ جديدٌ لا أعرفهُ.

ومضيا في طريقهما تاركين محمداً رفيق الطريق بعد أن تنكّر له حسين دون كلمة وداعٍ، أو جملةً للشد من أزره.

صُعق محمد، وشعر بأنهُ أُهينَ وأحس بمدى غباوتهِ عندما وثقَ في حسين واطمأنَ له، وراح يروي لهُ شيئاً عزيزاً من ذكرياته الخاصة، وأخذ يقطع المسافة المتبقية إلى بيته بدموع حبيسة في عينيه، وهو يشعر أنّ لا شيءَ يناهزُ حياة الوحدة.


النهاية

دلف محمد المنزل كاسفَ الوجهِ منقبض النفس، فاستقبلتهُ أمه خلف الباب بفرحٍ ولمّا لاحظت ملامحهُ العابسة الحزينة سألتهُ: ماذا هناك يا محمد؟.

فاشتكى محمد لأمهِ أن رغبتهُ في الدخول في علاقات جديدة مع البشر قد انعدمت، وأنّه قطعَ منذ الآنِ كل المحاولات في هذا الاتجاه، في الوقت الذي كانت به الجدةَ تقلمُ أظافرها في ركنٍ من الغرفةِ، فقالت تخاطب حفيدها بقلة اكتراث وكثيرٍ من الهدوء والحكمة: يا بني، لا يمضي أسبوع واحد دون تقليم أظافري، فهي إن طالت تخدشني وتؤذيني، وإنّي لأعجب كيف تستمر بالنمو رغم الهزال الذي أصاب كل شيء في جسدي، لكني لم أفكر يوماً في قلعها مؤمنةً أنّ هذا هو الحل. كل ما أفعله هو أن أقلم أظافري بين فترة وفترة، وأظنك بحاجة لتقليم علاقاتك كذلك، فلا يثبت لديك إلّا من يستحق، وسيكونون قلةـ قلة قليلة بعدد أصابع اليد!