حُمق

صبيحةَ يوم الجمعة نهضَ لؤي وهو فتى يبلغ من العمر ثماني سنوات يمتلك شعراً بُنياً، وعينين سوداوين وبشرةً مُلوحةً من فرطِ نشاطهِ وحيويته اللتين تدفعانهِ لقضاء ساعاتٍ طويلةٍ في عُطلهِ المدرسيةِ في اللعب خارجَ البيت تحت أشعةَ الشمس، دون أن يؤثر ذلك على واجباته المنزلية والمدرسية، وَراحَ يقولُ لأمهِ: سأخرجُ للعب كرة القدم مع أصدقائي.


قطبت أمه وجهها، وقالت: انتظر ريثما تتناول فطورك! لمن أعدهُ أنا إذًا!

فقال لؤي مُدافعاً عن رغبته: أكلتُ تُفاحةً وشربتُ الكثير من الماء، ثم إنّ أستاذ الرياضة في المدرسة أخبرنا أنّ اللعب بمعدةٍ ممتلئة ينطوي على كثيرٍ من المضار!، لم تأخذ شيماء كلام ابنها على محمل الجد، فصاحت على زوجها تقول: ممدوح تولَّ ابنك..رباه ألا يكفي غيابك الطويل عن المنزل أوف!.

سمعَ ممدوح والد لؤي الحوار الذي دار بينهما، فصرخ بغلظةٍ: اسمع ما قالتهُ أمك أيها الولد.

فتبرّمَ لؤي وزم شفتيه من محاولةِ والديهِ ثنيه عمّا عقد عمله.


على المائدة نظر ممدوح بعينينِ صارمتينِ لابنهِ وقالَ وهو يضعُ لقمةً في فمه: من هم أصدقاؤك الذين ستلعب الكرة معهم؟.

قالَ لؤي بعد أن مسحَ قطرةَ لُعابٍ قذفت من فم أبيه: مع أولاد الجيران.

قال ممدوح بنفاد صبر: يعني من هم على وجه التحديد؟.

فقالَ الفتى بملامحَ مرتبكةٍ وصوت متكسِّر كأنهُ في تحقيقٍ رسمي بُجُرم: ر رؤوف ورفيف ابنا جارنا سيف، وعلي ابن جارنا محسن، وصدام ابن جارنا محمد.

نَظرَ الأبُ باحتقارٍ لابنهِ وقال بحزم وعناد: فلتنسَ كرة القدم هذه نهائياً أي أحمقٍ هذا الذي يركضُ وراءَ جلدة منفوخةٍ بالهواء! ولتصبَ اهتمامك كله في دراستك، دراستك فحسب هل تفهم ما أقوله؟.

لكنني غيرُ متأخرٍ في دروسي وما زلنا في بداية العام!.

كفى عيبٌ عليك لا تُناقشني فيما قُلته.


كان ممدوح والدُ لؤي يعملُ مُمَرضاً في مشفى خارجَ المدينة، وكانت إجازاتهُ التي تمنح له قليلة بحيث لا تتجاوز الأسبوع خلال شهرينِ كاملين، فهو لذلك لا يعرفُ أشياء كثيرة عن ابنهِ، وكانت زوجتهُ في كثير من الأحيان ترى أفعال ابنها لؤي بمنظار مضخّم وترويها لزوجها على غير حقيقتها كأنما لتألّبهُ عليه، ومع ذلك فإنّ الأم والأب على حدٍ سواء يريدان تعطيل إرادةِ لؤي حتى تتماشى إرادتهُ مع إرادتهما هم.


بعد الانتهاءِ من الفطور نهضَ ممدوح وزوجته ليبدّلا ثيابهما، وقالت شيماء لابنها بعد أن رازتهُ بعينيها: هممم هذا جيد ثيابكَ لائقة، البس حذاءك وانتظرنا في الخارج فسنذهبُ لزيارةِ بيت جدك.

يرتدي لؤي حذاءهُ ويخرجُ للحديقةِ ومن الملل يمسك الكرةَ ويأخذ في ملاعبتها وتنطيطها ريثما ينتهي والداه من تجهيز نفسيهما، وعندما ينفتحُ الباب يجفلُ لؤي فتطيرُ الكرةُ وتلامسُ غُصناً صغيراً من نباتٍ للزينةِ وَتُسقطهُ، تَلمحُ أمه شيماء هذا المشهد فيجنُّ جنونها وتفقد عقلها، وتبدأ في الصراخِ على لؤي: ماذا فعلتَ يا معتوه؟ كسرتَ الزريعة ألا فليكسر الله يدك على فعلتك، ممدوح ممدوح تعالَ بِسرعةٍ لتنظر ماذا فعل ابنك..ممدوح انزل؟.

يهبطُ ممدوح على وقع صيحات زوجتهِ بِسرعةٍ وينظرُ في وجهها بملامحَ قلقة: ماذا هناك؟ ماذا حدث؟ ماذا جرى؟.

تنظرُ إلى ابنها وتقول واجمةً: ذلك اللعين، ذلك الشيطان كَسرَ الزريعة أثناء لعبهِ بالكرة، آه يا لحظي التعس.

تمتلئ نفسَ ممدوح غيظاً وغضبًاً فيكزّ على أسنانه ويتجهُ نحو ابنه لؤي ويزعق في وجهه -وهو يشعرُ بالزهو من أنّ قراره الذي أملاه على ابنهِ منذ قليل لم يكن بلا قيمةٍ كما يمكن أن يتخيل ابنه وزوجته وربما هو: ألم أَنهكَ عن التعاطي مع هذا الشيء الغبي؟ لماذا لا تسمعُ الكلمة؟ ما لكَ ساكت أجب؟.

الصبي في رعبٍ وارتباكٍ وهو يداعب بيدهِ زراً من أزرار سترته: أ أ أ أنا أنا كُنت أنا لم أقصـ...د ذلك.

لم تقصد ذلك قلت لي ها؟ وذهب وتلقفَ الكرةَ وعاد للمنزل وغاب لحظةً، ولمّا خرجَ كان يحمل في يده سكينًا فصاح: انظر إليَّ هَا هي ذي كرتكَ ههه. قال ذلك وغرز السكين الذي بيده في أحشائها، فسمع لؤي صوت الهواء يندفع بقوة من جوفها فشعر من ذلك بحزنٍ عميق.

وأردف والدهُ: حتى تعرفَ أنّ لكلامي حكمةً!.


النهاية

ركب الجميعُ السيارة وانطلقوا في طريقهم إلى منزل الجد، وبينما هم في الطريق قالت شيماء مخاطبةً ممدوح: أرأيت بعينكَ هَمّ الأولاد وأي مجلبةٍ للشقاء هُم! وهذا لا شيءٌ أبدًا مقارنةً بما أُقاسيهِ في غيابك يا ممدوح.

هممم أُقَدّرُ ما تبذلينه من مجهود، فليباركك الله.

ينظرُ ممدوح في مرآة السيارةِ الداخلية فيشاهدُ لؤي وقد احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه من شدةِ الحزن، فيتبرّم ويهمُ بإخراج سيجارةً من عُلبة السجائرِ خاصته، وأثناء محاولتهِ إشعالها يفقد سيطرتهُ على سيارته فتسقط في الوادي مقتلعةً في طريقها شجرة.