بعيداً عن العالم

في أرضٍ سهليةٍ حمراءَ مُنبسطةٍ ممتدة على مرمى البصر تعطّلت سيارةُ أحد الدبلوماسيين الهولنديين الذين يعملونَ في سفارةِ بلادهم، فقالَ بعدَ أن ضربَ المِقودَ بيده مُحنقاً: هُراءٌ هو حظِي العاثر هذا، وأعاد تشغيل المحركِ مرةً فاثنتينِ فثلاثة وهو يأمل اشتغالهُ لكنه لم يشتغل، ففتح الغطاءَ الأماميَ للسيارةِ وترّجل منها ونظرَ نظرةً للمحرك، وأردف يقول: أفعل هذا لكأنني خبيرٌ في إصلاح أعطال المركبات!، وأنزل الغطاءَ وأخذ يدور ببصرهُ في المكانِ لعلهُ يجدُ إنساناً يساعدهُ في حل مشكلتهِ لكنهُ لم يجد.


كان الموظفُ في السفارةِ الهولنديةِ قد نوى زيارة جميعِ المناطق المهمة قبل أن تنتهي مُلحقيتهُ ويرجع إلى هولندا، فقد دارَ في شتى أصقاع الدولةِ من جنوبها إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها ولم يدع معلماً طبيعياً أو أثرياً إلا وقد ألقى نظرةً عليه، وعندما سمعَ عن وادٍ جميلٍ تترقرق بين منحدراته الجداول على هدأة، وتهوي من أعاليهِ المسايل وتشدو بين جنباتهِ شتى الأطيار، وتسمق من أديمهِ مختلف الأشجار عزمَ أمره على زيارتهِ لئلا يفوّت فرصةَ التمتع بسحره.


٢

وضع يده في جيبهِ وأخرج هاتفهِ ليجري اتصالاً مع السفارة، وعندما نظرَ في شاشته قال مصدوماً: ماذا لا يوجد تغطيةُ لشبكة الاتصال!.

دسَ الهاتف في جيبهِ وراح من جديدٍ يدور بصره في الأنحاء بحثاً عن بارقةِ أمل، فلاحَت له بعيداً عند الأفقِ أعداد من الماشيةِ، فقالَ وهوَ يُضيّقُ بصرهُ ويمسحُ بيدهِ للخلف شعرهُ الأصفر: حسناً ليس هناك بدٌ من ذلك، وأحكم إقفال سيارتهِ ومضى باتجاهِ الماشية.


٣

قارب فنسنت الوصولَ، وراح من مكانهِ يفتشُ عن راعي القطيع فوجدهُ يجلسِ فوقَ حجرٍ إلى جانبِ حماره، فحثّ خطاه نحوهُ ولما أدركه قال بلغةٍ عربيةٍ متكسرة: السلام عليكم يا أخي، فردَّ الراعي التحيةَ بمثلها وأضاف: ما هو طلبك؟.

قال فنسنت: في الحقيقةِ لقد تقطعت بي السُبلُ في هذه المنطقة غير المأهُولةِ بالبشر، وأريد أحداً يعرفُ في الأمور التقنية للسيارات كي يصلح سيارتي.

فقال الراعي ذو الوجهِ المُلّوح: آه لقد فهمتُ عليك، لكن كل ما باستطاعتي فعلهُ هو أن أدلكَ على مزارعٍ يقيمُ هناكَ خلفَ هذهِ التلة التي أمامك.

استغربَ فنسنت وسأل الراعي مستفهماً: هذا كل شيءٍ عندك! هممم وماذا بمقدورهِ أن يفعل لي؟.

فقالَ الراعي بحماسةٍ واندفاعٍ كأنهُ يكفرُّ عن خطيئةِ الهولندي: ما هذا الذي تقوله يا سيدي ما هذا الذي تقولهُ إنهُ ذكيٌ يا سيدي ذكيٌ، وحلال للمشاكل.

حدّثَ فنسنت نفسه مصدوماً وهو يتأملهُ شزراً: ماذا يا للمصيبة! يبدو لي هذا الراعي أبله أو مأفون!. ثمَّ زفر: أوووف طيب قلتَ خلف هذه التلة صحيح؟.

ولمّا أكدَّ لهُ الراعي ذلك أدار ظهره وأسرع إليه وهو يقول: إنني أُقامرُ إذ أستجيب لكلامه لكن فليكن ما دامت الخيارات معدومة!.


٣

مضى فنسنت في طريقه إلى المزارع وأخذ أثناء سيرهِ يتأملُ الأرضَ الحمراءَ من حولهِ وخطرت له فكرةٌ ثم لاحت لهُ فكرة أخرى فوضع يدهُ في جيبه وأخرج هاتفه من جديدٍ لعلَّهُ يرن، ففتحه واتصل على رقم السفارةِ لكن دون نتيجةٍ أيضاً وحدّث نفسهُ: تباً للحظ الذي يدفعني رغماً عني للمُضيّ خلف هذه التلة، وحينما بلغها توقف لحظةً وفكّر: هل أصعدها مباشرةً أم أتجاوزها من جنب! سأصعدها مباشرةً فهذا أفضلُ لي لأنني من فوق أستطيع الإشراف على المنطقة واستطلاع الفلاحِ قبل كل شيء.

وأثناء صعوده التلة كانت تتناهى إلى مسامعهِ أصواتُ ثغاء الماعز من كل جهةٍ، ولما بلغَ قمّتها تبينَ من موقعهِ قُطعانَ الماشيةِ الكثيرة المنتشرةِ في أرجاءِ السهل، ثُمَّ تَبينَ له أدنى التلة غير بعيد منها كوخاً خشبياً جميلاً مُحاطاً بأشجارِ الزيتونِ، والليمون، والبرتقال، والزيزفون بالإضافةِ لأُصص الزهور ونباتات الزينةِ التي تزيّنُ حواشي الكوخ ونوافذه وبابه، فابتهجَ وتهللت أساريره عند رؤيته هذا الجمالَ في هذه البقعةِ الخلاء، وانتهى ترددهُ السابق وحلَّت مكانهُ رغبةٌ ملحةٌ متقدةٌ للتعرفِ على هذا المزارع.، وعندما شارف على نزول التلةِ لمحَ أرجوحةً معلقةً بين جذعينِ من أشجارِ البرتقال واقترب منها فوجدَ المزارعَ بملابسهِ الرثةِ الباليةِ راقداً فيها، وقد غلبه النعاس بينما يخفي وجههُ بقبَعته، فأخرجَ فنسنت هاتفهُ وفتحَ كاميرتهُ وثَبتها على الكوخِ والأُصص وبعض حبات البرتقال المُعلقةِ بالأغصان والتقطَ صورةً تذكاريةً لهُ، ثمَ نظر إلى الفلاح عساهُ استيقظ لكنه بقي على حالهِ، وثبت كاميرته على منظر جميل آخر والتقط صورة أخرى، ثمّ تراجع إلى الخلفِ وثبّتها على الأرجوحةِ وجذعي شجرة البرتقال اللذين يحملانها ومن جديد التقط صورة، وهنا بدأت الأرجوحةُ بالاهتزاز ورفع المزارعُ رأسه وتطلع بعينيهِ النعاستين الحمراوينِ ناحيةَ فنسنت، فأدهشهُ رؤيةُ طول قامته الفارع ووجههِ الأحمر، وشعره الأصفر وعينيه الزرقاوين فأنهضَ جذعهُ ووضعَ قبعتهُ فوق رأسهِ، فقالَ الهولندي بعربيته المُلتوية: مَرحباً أيّها المزارع.

نظرَ المزارعُ إليهِ وضحكَ من طبيعةِ النطق التي لم يسبق له أن سمعها من قبل وقال: ها ها ها أهلاً بكَ أظنُ أنكَ سائحٌ أليس كذلك، ولكن ماذا يوجد هنا في هذا المكان حتى يكون جديراً بزيارتك!.

ابتسمَ فنسنت وقال: في الحقيقةِ كنتُ متجهاً إلى وادي اللؤلؤ الشهير بطبيعته الساحرةِ الفتانة.

فقاطعهُ المزارعُ قائلًا: أخطأتَ الطريقَ يا سيدي، وادي اللؤلؤ لا يُذهبُ إليهِ من الطريقِ الذي سلكتهُ إلى هنا.

عندما سمعَ الهولندي ذلك تمتم بصوت خفيض: صدق من قال إن المصائب تأتي جُملةً. ورفعَ صوتهُ قائلاً: أنا أيها المزارع بالإضافةِ لذلكَ تَعطلت سيارتي في الطريقِ العامةِ والاتصال متعطلٌ في هذه المنطقة، ولا أعرفُ ماذا أفعل، فإذا كان باستطاعتك مد يد العون لي فسأكافئُك مكافأة مجزية.

نزل المزارع من أرجوحته دون أن يقدم جواباً وتوجهَ نحو الكوخِ وجلبَ من الداخل كُرسياً خشبياً قدمه للهولندي وقال: اجلس.

وجلسَ هو أمامه على الأرضِ وأسند ظهره إلى جذع الشجرة.

وقال فنسنت: ماذا بشأنِ مُشكلتي، هل يمكنك مساعدتي؟.

قال المزارع: لا تقلق فمع حلولِ المساء تأتي شاحنة كبيرةٌ لأخذِ الحليب من الرُعاةِ في هذه المنطقة، وسأدع السائق يسحب سيارتكَ معه إلى المدينة.

قال الهولندي مُستاءً: في المساء!.

-نعم.

قال لنفسه: طالما أنهُ لا خيار آخر أمامي فأنا مجبرٌ على الانتظار.

ورفعَ صوته قائلاً: أُزعجكَ إن انتظرت هنا؟.

-لا بالطبع تسرني ضيافتك.

ونهضَ الهولندي من مقعدهِ وراحَ يتأملُ ويديه في جيبه حقلَ المزارع الصغير، وقال بعدَ حين مستغرباً: ألا تزرعُ شيئاً غير هذه المزروعات هناك؟.

قال المزارع: لا

فنسنت: هل ستعودُ للعمل في الحقل؟.

المزارع: لست في حاجةٍ إلى ذلكَ فقد استيقظتُ مع حلول الفجر صليتُ وخرجتُ مع إشراقة الصباحِ إلى الحقل وعملت فيهِ خمس ساعات.

فقال الهولندي بنبرةٍ مشفقة: لماذا لا تعملُ طوالَ النهارِ وتزيد المحصول، وبأثمان الفائض منهُ تجلبُ عمالاً ليساعدوك في استغلال هذهِ المساحاتِ الكبيرةِ في الزراعة!.

المزارع: وما حاجتي إلى ذلكَ طالما أنني ملأتُ ثلاثَ سلالٍ كبيرةٍ بشتى أصناف الخُضارِ والبُقوليات!.

ويرد الهولندي باستياء: ما حاجتكَ إلى ذلك! ألا تدري حقاً؟.

ويهز المزارع رأسه نافياً.

ستمتلكُ مع الوقت مالاً كثيراً يمكنك استثمارهُ في شراء آلياتٍ زراعية حديثةٍ تعفيك من أجور العمال، ومع مرور الوقتِ يكثر المال بين يديك ممّا يخولك لأن تُنشئ مصنعاً للتصنيع الغذائي.

هزَ المزارع رأسهُ موافقاً.

وأكمل الهولندي: والمصنع يصبحُ مصنعين ثم ثلاثة فأربعة، والكميات المضاعفة من الإنتاج تصدرُها إلى دولِ العالم، ويصبحُ لديك بعد ذلك أسطولاً من السياراتِ والطائرات والخدمِ تحتَ إمرتك.

ومن فرطِ انفعالِ الهولندي في الحديثِ يَشرقُ أثناء كلامهِ فيهرول المزارع للكوخ ويعود حاملاً بيدهِ كوباً من الحليب ويقدمه للهولندي وهو يقولُ في هدوء: ثُمَّ ماذا؟.

ويردُ الهولندي بحماسٍ قائلاً: ثُمَّ تستطيعُ أن ترتمي بهدوء في أرجوحتكَ، بينما تستمتعُ بالتقاطِ البُرتقال وأكله تحتَ أشعةِ الشمسِ المتسللة من بين الأوراق!.

ويبتسمُ المزارع ويقول بعد أن يقطف برتقالةً ويقدمها له: لكنني أفعلُ ذلك الآن، لقد كنتُ بالفعلِ أنعمُ بالراحةِ في أرجوحتي بعد أن أكلتُ برتقالةً، لولا أنك أقلقتني بمقدمك!.


وفي المساء تأتي الشاحنةُ وبفضل المزارع تُسحبُ سيارة الهولندي الذي انصرفَ واجمًا مفكراً بحكمة المزارع.