الميراث

يعيش ذلك العجوز الذي يدعى أبو معروف وحيداً في منزل مهترئ بعدما توفيت زوجته، وترَكه أولاده الأربعة مُتجهين إلى أشغالهم وحياتهم الخاصة، وذلك بعد أن علّمهم وزوجهم جميعاً بكدّ وشقاء.


في يومٍ ما رآى يعقوب جارُه تحسين جالساً وحده على أحد أرصفة الشوارع، فاقترب منه وقال: ما بالك يا أبا معروف لم أعُد أراك كالسابق!

هزّ أبو معروف رأسه وقال له بنبرة تحمل قدراً من الأسى: آخ، وماذا تريد لحالي أن يكون بعد أن تركني أبنائي أعيش وحيداً منذ زمن.

نظر له جاره تحسين وقال له متعجباً: ألا يزورك أحد منهم!

ابتسم أبو معروف ساخراً وقال: هيه، لقد مضى عامان ولم أرَ أحداً منهم، لكنني أسمع أخبارهم من الناس حولي.

قال له جاره تحسين: وما هي أحوالهم الآن؟

بدأ أبو معروف يُعدّدهم له وقال: ابني الكبير معروف يسكن مع أهل زوجته منذ مدة، كما أنه يعمل مع والدها في بيع الخضار والفواكه ولديه خمسة أطفال، بينما يعقوب الأصغر منه لديه متجر صغير لبيع الألبسة ولديه طفل واحد فقط.

ابتسم جاره تحسين وقال: ممم، وما هي أخبار حسين وأيمن؟

أخذ أبو معروف نفساً عميقاً وقال: آآآه، حالهم كحال إخوتهم، فحسين يعمل في وزارة الزراعة ومتزوج ولديه ثلاثة من الأبناء، بينما أيمن وهو أصغرهم سناً يعمل في أحد البنوك، كما أنني سمعت من أحدهم أنه قد تزوج حديثاً لكنه لم يدعوني إلى حفل زفافه تخيّل!

دُهش جاره: أيعقل هذا!

ظلّ أبو معروف وجاره تحسين يتبادلان أطراف الحديث حتى أرخى الليل سدوله ثم اتجه كل منهما إلى منزله.

وفي أحد الأيام دخل الجار تحسين إلى أحد البنوك لاستلام راتبه التقاعدي، فلمح أيمن يعمل كموظف محاسبة هناك، فاقترب منه وقال له مندهشاً: ها! أيمن! أنا جار والدك ألم تتذكرني!

تفاجأ أيمن وسلّم عليه بحرارة وقال له: أوووه بالطبع يا عم تحسين لقد تذكرتك.

ثم أخذه جانباً ليكملا الحديث سوياً، فقال له تحسين متمتماً: لمَ لم أعد أراك أنت وإخوتك تزورون حارتنا؟

ابتسم أيمن وقال له: لقد زرت والدي الأسبوع الماضي أنا وأخي يعقوب.

عندما سمع تحسين ذلك استغرب كثيراً، إلا أنه لم يعقّب على كلام الشاب، ثمّ قال له: ممم لقد سمعت أنك تزوجت حديثاً.

ابتسم أيمن وقال: نعم، لقد أرسلت لك بطاقة دعوة مع والدي، ألم تصلك!

نظر له تحسين وقال: ها! لا، لم يُعطني شيئاً.

قال له أيمن: لقد كان حفل زفاف جميلاً ومميزاً حضره والدي وإخوتي جميعاً.

نظر له تحسين وقد كشف كذبه وقال: مبارك مبارك...لكن قل لي لم لا تجتمعون وتسكنون في مزرعة أبيك الجديدة؟

صدم أيمن وقال: ها! عن أي مزرعة تتحدث؟

قال له تحسين: لقد رأيت والدك جالساً على أحد الأرصفة قبل أسبوع، وأخبرني بأنه اشترى مزرعة كبيرة.

فتح أيمن عينيه وقال: أي مزرعة هذه! سأستطلع الأمر.

اندهش أيمن ممّا سمعه، ولما انصرف من عمله ذهب لزيارة إخوته ليخبرهم بأمر المزرعة، فقال له معروف والحماس يملؤه: إذن يجب علينا أن نأخذ زوجاتنا وأطفالنا ونقوم بزيارته، خوفاً من أن يحرمنا من ميراث المزرعة الجديدة كوننا لا نزوره أبداً.

ولمّا سمع الأشّقاء ذلك هزّوا رؤوسهم ووافقوا جميعهم على اقتراحه، وهبّوا في مساء ذلك اليوم مجتمعين مع عائلاتهم إلى منزل والدهم.، ولما وصلوا منزل والدهم وفتح لهم الباب تفاجأ بقدومهم جميعاً لزيارته على غير عادتهم، فلم تسعه الدنيا فرحاً لمّا شاهدهم حتى أنّه بدأ بالبكاء، ثم استفسر منهم عن سبب قدومهم، فأجابه حسين وهو يبتسم وقال: لقد اشتقنا لك كثيراً، وقررنا أن نزورك أسبوعياً لنكفّر عن تقصيرنا في الفترة الأخيرة.

ضحك أبو معروف مستغرباً وقال: أوووه، لقد فرحت جداً بقدومكم.

ثم بدأ أحفاده يلعبون مع بعضهم في أرجاء المنزل وقام أبنائه وزوجاتهم بالجلوس معه حتى ملأ الضحك أرجاء المنزل وعادت الحياة إلى قلبه، فيما كانوا طوال جلستهم تلك مترددين من مفاتحته بموضوع المزرعة.


الأيام الأخيرة

وفي أحد الأيام وأثناء تناولهم وجبة العشاء كان أبو معروف شارد الذهن، وفجأة شعر بغشاوة في عينيه وأحس بالدوار حتى سقط مغشياً عليه، فنقله أبناؤه إلى المستشفى، وفور خروج الطبيب زفر في ضيق وقال: آآه، إن العم أبو معروف يعاني من مرض السرطان منذ عدّة أشهر، حيث يراجعني أسبوعياً لأخذ العلاج، لكنه لم يعد يأتي لأخذه منذ ثلاثة أسابيع.

شهق أبنائه، فيما استطرد معروف بالحديث وقال: وكيف هي استجابة جسمه للعلاج؟

نظر الطبيب أرضاً وقال لهم متنهداً: همم، مع الأسف، لقد وصل مرضه إلى مراحل متقدمة، حتى فتك بجسده كلّه، ولا أخفي عليكم أنّ لا بارقة أمل لشفائه.

توفيّ أبا معروف بعد ذلك بأيام، فيما أقام له أبناؤه واجب العزاء مترقّبين انتهاء أيامه لتقاسم الميراث، لا سيما المزرعة التي لم يروها حتى اليوم، وما إن انتهى اليوم الأخير حتى جاء الجار تحسين وطلب منهم ان يجتمعوا، واقترب منهم وأعطاهم صندوقاً خشبيّاً مغلقاً، وقال: هذا ميراث أبيكم لكم، كان قد أعطاني إيّاه قبل أسبوع من وفاته، وأوصاني بإعطائكم ذلك الصندوق الذي لا أعلم ما بداخله.

نظروا ببعضهم البعض متظاهرين بالحزن، فيما مدّ يعقوب يده وأخذه بشهوة وهو يحملق إلى إخوته والحماس يملؤه، ولمّا فتح الصندوق كان الصندوق فارغاً إلّا من رسالة يصحبها أحد أثواب والدهم، ولمّا فتحوا الرسالة وجدوا فيها: "لقد اتفقت مع جاري تحسين لإخبار أيمن بأنني أمتلك أرض زراعية، حيث لم أجد أمامي سوى تلك الحيلة لأراكم مجتمعين أمامي في أيامي المتبقية الأخيرة، والآن لا أملك لكم سوى ثيابي المهترئة، واعذروني لأن ما ورّثتكم إيّاه لا يساوي شيئاً ممّا عشمتكم به من أرض، لذلك آمل أن تبقوا يداً واحدة كما رأيتكم آخر مرة، بعد أن عرفتم أن نعمة العائلة والأُخوّة لا تقدّر بثمن، أمّا عن ثيابي فليأخذها أكثركم حبّاً لي."

عمّ الصمت المكان، وأخذ الأبناء يحملقون ببعضهم البعض فترة من الزمن، فيما قام حسين وصرخ قائلاً: أيورّثنا ذلك العجوز ثيابه المهترئة! آآخ فليذهب إلى الجحيم.

وقام بتمزيق الرسالة ورميها أرضاً، واتجه كل واحد منهم إلى منزله مستاء.


تنهّد الجار آسفاً لما رآه، وطلب من أبناء جاره أن يأذنوا له بأخذ هذه الملابس كذكرى لأبيهم عنده، فوافق الأبناء بعدما أداروا لهم ظهره وانطلقوا يستشيطون غيظاً لما فعله والدهم، وبعدما عاد كلّ إلى عمله، ضمّ تحسين الملابس إليه بعدما غزته ذكرى جاره، فسقطت منها رزمة من النقود تقدّر بالآلاف ومن بينها رسالة كُتب فيها" تحسين العزيز، كنت أعلم أنّ ملابسي هذه لن تؤول إلّا إليك، فليست المحبّة بالدم دوماً يا جاري، هذه نقودي كلّها أنت أحقّ بها منهم".