ولادة متعسرة

دعاني صديقي الذي يعملُ مأمورَ سجنٍ على الغداء في أحد المطاعم في المدينة، وبعدَ أن أملينا على موظفِ المطعم طَلبنا وضع صديقي يدهُ في جيبِ سترتهِ الداخلي وأخرجَ كُنَّاشةً رثةً مُهلهلةً ووضعها أمامي، فتعجبتُ وقلتُ له: لمَ تضعُ أمامي هذه الأوراق المتهالكة لكأنها مخطوطةٌ من عصرٍ غير عصرنا!.

فقالَ لي بنبرةٍ أسيانةٍ لكنها جادة: هذه الأوراقُ لمعتقلٍ توفي الأسبوع الماضية بسكتةٍ قلبية.

فقلت له بدهشةٍ: وما علاقتي أنا بهذه الأوراق، وما يمكنني أن أفعله بها؟.

أوصاني قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أن أُعطي هذا الدفتر الذي دونَ معاناته عليه لمؤلفٍ يمكنهُ إعادة صياغةِ القصة بأسلوب أدبي لنشرها للعامة.

فضحكتُ وقلت له: وهل تظنُ أنها تستحقُ هذا الجهد! ثُمَّ إنّ لجميع الناس معاناتهم التي يرونها جديرة أكثر من غيرها بالكتابة والنشر!.

ولمّا كانت الأَطباقُ توضع على المائدةِ نظرَ في عينيَّ بحدةٍ، وقال لي: مع ذلك حاول فقد تراها تستحق النشر.

وضعتُ الكُناشةَ في جيبِ سترتي، ووعدتهُ بصوغها كقصةٍ نزولًا مني عند إرادتهِ وشرعنا في الأكل.



كُنا نَعيشُ أنا وزوجتي وطِفليَّ حياةً أُسريّةً هادئةً ساكنةً دافئةً يمكنني وصفها الآنَ وأنا جاد مما أقوله بأنها سعيدة، على الرغمِ من أنّ هذا الإحساس بالسعادة نفسه كان يحتجبُ عني آنذاك لمجردِ أن حياتي الشخصية كان يشوبها بعضَ المكدّراتِ والمنغصاتِ التي لا يكاد يخلو منها بيت وربُ أسرة، وكانت زَوجتي حُبلى بطفلنا الثالث، واستيقظت في ليلةٍ ماطرةٍ من ليالي ديسمبر الماطرة عندما كانت في شهرها التاسع وأخذت تلكزني بيدها وتقول لي صائحةً بينما أنا مُتلفعٌ في غطائي غارقٌ في نومي: عُمر إني أعاني آلام الطَلْق ويبدو أن موعد ولادتي قد دَنا.


استيقظتُ أجاهدُ في إبقاء جَفنيَّ مَرفوعينِ ورحتُ أُحَدّقُ فيها غيرُ واعٍ لما تقولهُ لي، فقلت لها من جديد: ها؟.

فقالت لي بإلحاحٍ مُبغض: خُذني إلى المستشفى حالًا أنا أَلِدُ.

ونهضتُ من فوري وارتديتُ على عجالةٍ ثيابي، وتأبطتُّ ذراعَ زوجتي واقتدتها إلى السيارةِ وهي تعضُ بقوةٍ على قماشةٍ وتأنُ أنيناً أليماً.

عندما وصلنا المستشفى كانت زوجتي غارقة في عرقها، وقد بُحَّ صوتها من كثرِ ما أعولت في الطريق، وجاء الطاقم الطبي وأسرعَ في إدخالها قسم الولادة، فيما لبثتُ أنا في الدهليزِ أنتظرُ بقلقٍ ما ستَؤولُ إليهِ الأمور، ورأيتُ الممرضاتِ يخرجنَ من غرفةِ الولادةِ ويتراكضنَ ممتقعاتِ الوجوه فرابني الأمر لا سيما وأن صوت زوجتي قد انقطع، وبعد لحظات سمعتُ بكاءَ رضيعٍ فاختلطت عليَّ المشاعرُ بينَ فرحٍ بسماعهِ، وحزنٍ على هلعِ الطاقم الطبي الذي لا يُنذرُ بخير.

لم أستطع الانتظار أكثر فتقدمتُ نحو الغرفةِ بخطىً مترددة، وسألتُ الممرضةَ التي كانت تَهمُ لتوها بالخروج: إذا سمحتِ، كيفَ حالُ زوجتي والطفل؟.

فقالت لي محزونةً: الطفل بخير.

فقلتُ لها بصوتٍ متكسر وقلبٍ واجف: وزوجتي!.

فردت قائلة: البقاء لله، توفيت بنزيفٍ حاد.


انتقلت أُمي للعيشِ في منزلي لتعنى بأطفالي الثلاثة، واستمرت على هذهِ الحال ما يربو على السنةِ صابرةً متجلدةً متحاملةً على نفسها رُغم كبر سنها، وفي ذاتِ يومٍ بينما كنتُ عائدًا من عملي وجدت أختي زائرة في بيتي تَرعى أطفالي بالإضافةِ لأُمنّا التي تفاجأتُ عندما رأيتها طريحة الفراش، فذهبت أختي تقولُ بنفاد صبر: اسمع يا أخي لقد طفحَ الكيلُ، وينبغي أن ترضخَ مُجبراً للزواج من امرأةً تقوم ببيتك وأطفالك! ألا تخشى اللهَ في أُمِنا! من سيرعاهم الآن بعد أن أطرحت الفراشَ بسبب آلامِ ظهرها التي دهمتها لقيامها بأعمال الشباب؟.

تنهدتُ وقلتُ مثل صغيرٍ مجردٌ من إرادته يدافعُ عن رغبته: لكنني أُحب المرحومة وأظن أنها...

فقاطعتني بغلظةٍ: دع عنكَ أوهامك واقبل بقدرك، وقدرك الآن بحثك بلا إبطاءٍ للزواج من أخرى.

نظرتُ إلى أمي والاضطرابُ بادٍ على ملامح وجهي، فقالت لي: ما باليد حيلة هذه المرةَ يا عُمر!.

عندئذٍ عرفتُ من أنه لا مهرب من زواجي، فانحنيتُ عند طفليَّ اللذين كانا يقفان بمحاذاتي وضممتهما، وقلت لهما: سأجلبُ مربيةً جديدة تكون بمثابة الأمِ لكما يا صغيريَّ.


مضى على زواجي من أميرة وهي امرأةٌ ثلاثينيةٌ مطلقةٌ قرابة الشهرِ، لم أرَ خلال هذه المدةِ أي مذمةٍ من جانبها أو تقصير يؤخذُ عليها، فأنا إن عدتُ من عملي وجدتُ الطعامَ على المائدةِ وأطفالي وهم في حالٍ حَسنة، وكنت في المُقابلِ لا أبخل عليها بمالٍ أو معسول الكلام.

وحدث ذات يوم بعدَ أن دخلتُ البيتَ وقدمتُ لها التحيةَ والأمنيات الطيبة وبعد أن عانقتُ طِفلاي وقَبّلتهما أن صعدت إلى غرفتي لأبدل ملابسي وأغسل يدي، وعندما انتهيت جلسنا أمام المائدةِ، فقالت أميرة: كيف صحتك اليوم؟ أما زلتَ تشكو من أوجاعٍ في رقبتك؟.

وقلتُ: زايلني الألم صبيحة اليوم.

-هممم أخبار حَسنة.

ونظرتُ إلى وائل وسلام وسألتُهما: كيفَ كانَ نهاركما؟.

-جيدٌ يا أبي، حَسنٌ.

وسألتهما خالتهما أميرة: كيف وجدتما طعامي يا صِغار؟ لكنّهما لبثا صامتين.

نظرتُ إليها وقلت مغيٍراً الموضوعَ لأُجنبها الحرجَ: كيفَ هيَ الرضيعةُ؟ آملُ أنها لا تضايقك.

فقالت لي بنبرةٍ حنون: بخير وهي تنام الآن في هدوء.


أنهيت طعامي وقبل أن أصعد لأخذ قيلولةً عرّجتُ على صغيري منصور لأملأ عينيّ برؤيةِ وجههِ الصغيرِ الغض، ولمّا رأيتُهُ مُقمطًا في سريرهِ رقّ قلبي له، فاقتربت منهُ واحنيتُ جذعي لأُقبلهُ على جبينهِ، وما أن لامست شفتايّ جبينهُ المُثلّج حتى ارتعبتُ، فحملته وحاولت إيقاظهُ وعندما لم يتجاوب معي، حملتهُ بقلبٍ مثقلٍ بالأسى وطرتُ به المستشفى. من غرفةِ الكشف أبعدَ الطبيب سماعته عن صدر الصغير أظلمت سحنته وزفرَ وأردف يقول: البقاءُ لله.

هويتُ فوق المعقد خلفي وأنا لا أصدقُ آذاني، فقلتُ له من جديد: اكشف عليه من جديد لعلك تكون مُخطِئاً!. فأكد لي أن قلبهُ متوقفٌ عن العمل.

فرحتُ أندب حظي وأصيحُ شاكياً متفجعاً فلذة كبدي، وأخيراً سألته عن سبب وفاته، فقال لي: بكل تأكيد من معاناتهِ من تشوهٍ خلقيٍ في القلب، إذ إنّ أغلب من يعانون من هذه المشكلةِ تتوقفُ قلوبهم فجأة ويفارقون الحياة على الفور.

ومع هبوطِ الظلام كنا أنا وأخي َوصديقي ندفنهُ إلى جانبِ قبرِ أمه، وقبل أن نترك الجبانة طلبت من زوجتي أن تعتني بابننا.


مرَّ الأسبوعُ الذي أعقب وفاته صموتاً هادئاً فلم نكد نتحدثُ أبداً من وطأةِ الفقد وشدته في نفوسنا، ولاحظتُ بعد ذلكَ عندما بدأت أفوق من صدمتي أن صِحةَ ابني في تدهورٍ متزايد، وفي أحد الأيام بينما أنا عائد من عملي ورحت أدخل المنزلَ لم أجد فيه أحدًا وعثرتُ على رسالةٍ مسندةً إلى المزهرية فوق الطاولة ولما فتحتها قرأت: فقد سمير وعيه فاضطررت لنقله إلى المستشفى.

ولحقتهم من فوري، وعندما وجدت زوجتي هناك ورحت أسألها بلهفةٍ عن سمير ابني الكبير قالت: حدثني الطبيبُ أنهُ يُعاني من فقر حاد في الدم بسبب الاكتئاب الشديد الذي دخل فيهِ لحزنه على أخيه مما أفقده شهيته للطعام.

ولبثَ سمير أسبوعاً آخر في المستشفى ثمَّ فارقَ الحياةَ، واسودت الحياةُ في عيني وثَقلت على كاهلي، وصار طعمها علقماً بالنسبة لي.


مرَّ عددٌ من الأيامِ لبثتُ خلالها في غرفتي منعزلًا ممتنعاً عن الخروجِ من البيتِ، وفي آخرِ ساعاتِ إجازتيِ وضعتُ رأسي على الوسادةِ ونمتُ كيما أستيقظ مبكراً وألتحق بعملي، فجاءتني زوجتي في المنامِ تهمسُ في أذني: "لماذا خُنت الأمانةَ وتركتَ الجِنيّة تُهلك الذُرية!."

فاستيقظتُ مفزوعاً من نومي، وقلتُ لنفسي: ما سرُ هذا الحُلُم! أيكونُ حُلماِ فارغاً لا قيمةَ له! وهل تعني فيهِ زوجتي أميرة! لكنها تبدو طيبةً خيّرة، ولو كانت سيئةً لاشتكاها أولادي لي!.

وعقدتُ النيةَ على التأكدِ إبراءً للذمة، فَأوهمتُ زوجتي أنني خارجٌ من البيت وتواريتُ في ركنٍ أحتجبُ فيه عن الآخرين ولبثتُ أنتظر.

لاحظتُ أن تصرفاتها كانت عاديةً إذ رتبت غرفتنا ثم دخلت غرفة ابنتي مريم واستأنفت عملها هناك، وبعد أن انتهت اتجهت نحو المطبخِ وعادت إلى غرفةِ مريم حاملةً في يدها طبقاً، وما هي إلا ثوانٍ حتى سمعتُ صوتَ مريم يرتفعُ راجياً زوجتي: أرجوكِ يا خالة لا تضعي في أنفي كثيراً من السُكر أرجوكِ لا تسمحي إلا لنملةٍ واحدةٍ بالتسلسلِ إلى أنفي، فقدتُ صوابي عند سماعي هذا، فخرجت من مخبأي واتجهتُ نحو الغرفةِ فوجدتُ ابنتي مقيدة بحبلٍ في عوارض السرير.

جن جنوني لدى رؤيتي هذا المشهد، فجأرتُ في زوجتي قائلًا: موتُ الأطفالِ من تدبيرك أنت؟! أنا لا أصدّقُ عينيَ!.

فقالت لي ناشجةً: عدم إنجابي للأطفال كان سبباً في طلاقي. واتجهتُ نحو المطبخ من فرط انفعالي وأمسكت سكيناً واتجهتُ نحو الغرفة كالمجنون وَوثبتُ عليها ونحرتها.

وبعد معرفةِ البوليس بالقضية، حولت القضية للقضاء الذي بدورهِ فتحَ تحقيقاً بالأمر تبيّن فيه أنّها من قتلت ابني الأول بتعريضه لنوبات من الماء البارد توقّف على إثرها قلبه، فيما تسبّب منع الثاني من الطعام بفقر الدم وموته، وكذا طفلتي الثالثة التي توفيت قبلَ صدورِ حكمٍ مخفف عليَ بالسجنِ مدةَ عامين.