عَضةُ كلب

بملامحهِ الشاحبةِ من جرّاء قضائهِ ساعاتٍ طوالٍ من نهارهِ في العمل، دخلُ أبو راشد الموظف الصغير في إحدى الطواحين منزلهُ مُتأبطاً صحيفة، ومن الغرفة المجاورةِ مدت زوجتهُ رأسها من فتحةٍ في الجدارِ ولمّا وجدته خالي الوفاضِ إلّا من هذه الأوراق قالت مُحتجةً: أين المُشتريات التي أوصيتكَ بجلبها من السوق؟.


ينظر أبو راشد إليها ويقولُ مُتأفِفاً: لمّا رأيتُ الجو شديد الحرارة هذا اليوم قلتُ لنفسي أن أعود للمنزل فآكل لقمةً وأرتاح قليلاً ريثما تهبط الشمس أكثر إلى الغرب فتهبط معها درجة الحرارة، رشقت الزوجةُ زوجها بنظرةِ احتقار وهي تدمدم بنبرةٍ مُستخفة: السيّد يخشى على نفسهِ من أشعة الشمس!.

ويقول أبو راشد مستفهماً: ماذا تقولين؟.

أقولُ لكَ أنّ طبق الطعام في الفُرن، أنا سأذهبُ لزيارةِ جارتنا، لا تنسَ الدجاج.


٢

عندما دقّت الساعةُ السادسةَ مساءً ارتدى أبو راشد ثيابه وأمسك باهتمامٍ كبيرٍ الورقة التي كُتبَ على ظهرها وصايا زوجتهِ، وخرجَ من المنزلِ قاصداً السوق، وأثناءَ سيرهِ في السوق مرَّ بمدجنةٍ ففتحَ الورقة ونظر فيها وقرأ: ثلاث دجاجات. فهتفَ يقول: زِن لي ثلاث دجاجات.

قال العامل بعد الانتهاء: هذه ثمنها تسعة دنانير.

مدّ أبو راشد يده وقال: هممم، خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة، تفضل.

وتناول منهُ الكيسَ وخَرج.


٣

على الرصيفِ المُقابلِ كانَ ثمةَ كلبٌ بديعُ الهيئةِ جامدٌ في مكانهِ يثبتُ بصرهُ الحاد على قطع الدجاج التي وضعت في كيسٍ وأعطيت لأبو راشد، بينما يهزُّ ذيله يمنةً وَيسرة، وراح من مكانهِ يتتبّع أبا راشد بنظراتهِ، وعندما بدأ يبتعدُ عنهُ انطلق في العدو برشاقةٍ نحوهُ حتى إذا أدركهُ وثبَ على الكيس وأطبقَ فكيّهِ عليهِ، ولمّا رآهُ أبو راشد جفلَ من الذعرِ فشدَّ بحركةٍ آليةٍ قويةٍ الكيسِ وركلَ الكلبَ بقدمهِ لإبعادهِ، فظنَ الكلبُ أن الرجلَ ينوي قتلهُ فأفلتَ الكيس وأنزل فكيه عند قدمِ الرجل وأحكمَ قبضتهما عليها، وأخذَ أبو راشد مُستدمعاً من قوةِ الألمِ يعولُ ويولول: آه قدمي توقف، ابتعد لا تعضني آه أيّها الناس أبعدوهُ عني!.

ويتجمهرُ الناس بينَ خائف مشفق، وضاحكٍ ساخر ويبعد بعضهم الكلب عن ساقهِ وتحدثُ جلبةٌ مازجها نباح الكلب، وما هي إلا لحظاتٌ حتى يشقَ عباب الجمهرةِ صاحبَي الشُرطةِ، وواحدٌ منهما يقول مستفهماً: ماذا هناك؟ لمَ هذا الاحتشاد هنا؟ وما سرُّ هذه الجلبة؟.

فيردُ أبو راشد هيّاباًً واجفاً: أنا يا سيدي هُنا، لقد عضني هذا الكلب وحاول أن يسرق مني كيس الدجاج.

نَظرَ صاحبي الشُرطةِ للرجلِ وسألهُ صاحبُ الرتبة الأعلى: من أينَ أنت؟.

فقال أبو راشد: من البلدةِ المجاورة، وأتيتُ إلى هنا بغرض التسوّق.

نظر صاحبي الشرطةِ بصرامةٍ إلى الكلب الذي كان يمسك به رجلين ويقولُ الشرطيّ المرؤوسُ: لمن تعودُ ملكيةُ هذا الكلب؟. وَيردفُ الرئيسُ مُحنقاً وقد رشق مرؤُوسه بنظرةٍ ماكرةٍ فَهمَ الأخيرُ منها أنهُ سمحَ لمثل هذا أن يحدث هذه المرة: لا بدَّ للقانونِ أن يأخذَ مجراهُ، فيعاقب مالكُ هذا الكلبِ الذي يتركهُ طليقاً بمعدةٍ فارغةٍ يسرحُ ويمرحُ بين الناس لكأننا في غابة!.

ويحملقُ في وجوهِ الناس المتسمِّرينَ حولهُ ويردفُ قائلاً من جديد بنبرةٍ محنقة: ما من أحد سيجيب؟، ويتحسس بيدهِ المسدس المثبت على خاصرتهِ ويضيف: إذن سأطلقُ عليهِ النار.

ويصدرُ صوتٌ سريعٌ من الحشد: إنهُ كَلبُ رئيسِ الناحية.

ولمّا سمع صاحب الشرطةِ ذلك حَدّقَ في وجوه الناس من الركن الذي خرج منه الصوت، وقال: من الذي قال إنه لرئيس الناحية؟.

تقدم رجلٌ من الجمهرة خطوتين وقال: أنا يا سيدي.

نظر صاحب الشرطة إليه باهتمامٍ، وقال: هل أنت واثقٌ مما قُلتَه؟.

فقال الرجل: أنا أعملُ كبستانيٍ يا سيدي، وقبل ثلاثة أيام كنتُ أعمل في حديقةِ رئيس الناحية، وأذكرُ أنني رمقت هذا الكلب آنذاك يُلاعبُ زوجة رئيس الناحية.

يقول الشرطي للبستاني بغلظةٍ: عُد إلى مكانك ولا تنبس ببنت شفة.

ويلتفتُ صاحب الشرطة لمساعدهِ، ويقول بصوت خفيض طالباً المشورة: ها ما قولكَ في الحادثة؟.

يقول المساعد: أتسألني يا سيدي!.

ويشيح صاحب الشرطة بوجهه عن مساعده وينظر إلى الكلبِ، ويقول: مالهُ مذعورٌ ذبلانٌ هكذا! لا بدَّ أن في الأمرِ شيئاً أجهلهُ!.

ويردفُ المساعد مُؤكداً كلام سيده: أجل يا سيدي يظهرُ أن وراءَ الأكمةِ ما وراءها!.

ويضيفُ صاحب الشرطة وهو يرشق المجني عليهِ بنظرةٍ قاسية: ما الذي يثبتُ لي أنكَ لم تنخس هذا الكلب أولاً، الأمر الذي دفعهُ للدفاع عن نفسه؟ بهذه الصورةِ تغدو أنتَ جانياً لا مجنياً عليه!.

عندما سمعَ أبو راشد ما قالهُ صاحب الشُرطة انتفضَ في ذلةٍ ارتسمت أماراتها على مُحيّاه: أُقسمُ لكَ بأغلظِ الأيمانِ يا سيدي أنني لم أُؤذِهِ أبَداً، وإنما هو من حاولَ سرقةَ كيس الدجاج وهو لمّا حاولت إبعادهُ عني عَضني بكل صفاقةٍ في ساقي، صدقني يا سيدي، قال أبو راشد ذلكَ ثم أحنى جذعهُ وكشف بيده عن ساقه، وأضاف: انظر يا سيدي بعينك إلى آثار عِضته انظر..انظر واحكم!.

وفي ذاتِ الوقتِ تقدمَ رجلٌ آخر من الحشد، وقال: هذا ليسَ كلبُ رئيسِ الناحية يا سيدي، مَن ادعى ذلكَ فهوَ واهم أو يعاني من ضلالات، ثُمّ أن زوجة رئيس الناحية مسافرةٌ إلى باريس منذ أسبوع!.

تهللت أساريرُ صاحبِ الشرطةِ لدى سماعهِ هذا النفيَ من الرجلِ، وقال يُحدثُ نفسهُ فرحاً: كنتُ أحسُ بأن هذا الكلب اللعين لا يعودُ لحضرةِ السيد رئيس الناحية.

َوهَتفَ يقول لأبي راشد: أَرني قدمكَ مرةً ثانية!.

وكشف أبو راشد عن عضةِ الكلب، وهو يقول: إنها تؤلمني يا سيدي، ولا أعرف كيف سأتدبر أمرَ رجوعي مشياً للبيتِ بعدها!.

فقالَ صاحب الشُرطة بنبرةٍ صارمة: لا بدَّ وأن ينال الكلب ومالكهُ عِندما أتعرّفهُ بعد قليل عقاباً شديداً جزاءَ ما خلّفاه من أذى، نعم ما في ذلكَ شك، وسأجعلُ مالكهُ الوغد يوصلكَ إلى منزلكَ على ظهرهِ!.


النهاية

تُسمعُ من بعيدٍ وقعُ حوافرِ خَيلٍ مُسرعٍ تقتربُ أكثر فأكثر، وما هيَ إلا لحظات حتى استدارت الرؤوس وتطاولت لتتعرفَ صاحبها، ويقتربُ الخَيّالُ من الجمهرةِ دون أن يكترث لوجودهم، ولمّا رمقَ هيئة صاحب الشرطةِ حَيّاهُ قائلاً: ها أنت ذا هنا يا صاحب الشرطةِ، طابَ مساؤكَ.

ابتسم صاحب الشرطةِ وقالَ في خنوع: طاب مساؤكَ يا سيدي، كيفَ حالُ السيد مدير الناحية؟.

فقالَ: على خيرِ حال، أما السيدةُ شقيقته التي نزلت عنده منذ أربعة أيام فقد أظلمَ مزاجها وساء حالها بسبب ضياع كلبها وقد خرجت بأمرٍ منها للبحث عنه.

هرعَ صاحب الشرطةِ من فورهِ قائلاً للرجلين اللذين يمسكا الكلب: اتركاهُ لي ابتعدا.

وحملهُ في نزقٍ وعرضهُ أمام الخيال في ضِعةٍ وأضاف: أهذا هو كلب السيدة شقيقة مدير الناحية؟.

صاحَ الفارسُ مُغتبطاً: هذا هوَ بعينهِ حمداً لله أنهُ بخير!.

تلألأ وجهُ صاحب الشرطة، ومضى يناولهُ له في كثير من الرفق وقد مسح بيده على ظهره مرتين ويقول: أبلغ تحياتي لها، وأخبرها عن مسعايَ في إيجادهِ لعلها تَدعُني لتناول العشاءِ الليلة.

وتفرقَ الجمعُ كلٌ إلى حال سبيلهِ، وأكملَ صاحبي الشرطة جولتهما المعتادة وكأنّهما لا يريا أبا راشد الذي عاد يعرجُ متعجّباًً إلى منزله.