ضِعّةْ

كان الشيخُ الطاعن في السن مسجىً على فراشه يعاني سكرات الموت، ويرقبُ من بين أهدابهِ الهرمةِ ابنهُ وهو متمسمرٌ أمامَ طبيب قريتهِ النائيةِ ويحاول بكل ما أوتي من قوة أن يتبين موضوع الهمس الذي كان يدور بينهما، كان هادئاً ساكناً رغم ثقتهِ من أنه سيموت عن قريب، ولكنهُ كان مستسلماً لأمرِ الله خاضعاً لهُ، فقد بلغَ الرابعةَ والتسعين من عمرهِ؛ وهذا جعله لا يزداد إلّا زهداً في هذه الحياة.


في الحجرة

وفجأةً ارتفع صوت الطبيب قائلاً في حَنقٍ ونفاد صبر: ما هذا الذي تقولهُ يا جواد، إنّك لا تستطيع أن تترك أباكَ وحيداً وهو في مثل تلك الحالة، افهم إنّه يموت! يُحتَضر، فأجابه بعدم اهتمام: في جميع الأحوال يجب عليّ أن أذهبَ إلى الكَرمِ لجنيِ العنبِ فقد أزِفَ أوانهُ، ولن يمكثَ طويلًا قبل أن يفسد.

وبرغم احتضارِ الشيخ وشعورهِ بدنو أجله توجه إلى ابنه مدفوعاً بشجعهِ وعِبادته للمال قائلًا: ما تقوله صحيح، اقطفهُ في أوانهِ قبل أن يضيع الموسم.

هتفَ الطبيبُ مغضبًا: ما أقساكَ وأجفاك! ولكنني لن أسمح لك أن تفعل ذلك، هل فهمت؟ إن كان عليك حقاً أن تجني العنبَ من الحقل، فَمن واجبكَ على أقل تقدير استدعاء شابٍ ليمكث إلى جانب المريض لقاءَ أجرٍ تنقده إياه، وأنا أصر على ذلك، أما إذا لم تفعل ما أشرت عليك به؛ فسأفضحكَ في القريةِ كلها وأجعلكَ عِلكةً في أفواهِهَم.

فَما كانَ أشدَ الاضطراب الذي شعر به جواد! لقد كان يخافُ على سمعتهِ بين الناس، ولبثَ لحظةً قبل أن يتوجه للطبيب بالسؤال: وكم سيستحقُ الشابُ من النقود لقاء خدمتهِ أبي وبقائه إلى جانبه؟.

نظر الطبيب إليهِ نظرة ازدراء، وأردف: وما يدريني أنا! الشُبانُ المتلهفون إلى عملٍ كهذا كُثر، اذهب وابحث عن واحد واتفق معه على الأجرة.

همممم، طيب، هذا ما سأفعله، ما عليك إلا أن تطمئن.

وخرج الطبيب من الغرفةِ وهو يؤكد لجواد أنه سيفضحه إذا لم يأتمر بأمره.


حين صار الشاب وحيداً مع أبيه في المنزل، قالَ له بنبرةٍ أسيانة: سأنطلق لأحضر شابًا يرعاكَ في غيابي، وخرج دون أن يلتفت لجوابه.

وبعد أن سألَ في القريةِ عمّن تُراه يقبل عَملاً كهذا أشاروا عليه بشابٍ يتعاطى مثلَ هذه الأعمال لوهنه الذي لا يسمحُ له بأداء الأشغال التي تحتاج إلى مجهوداتٍ عضلية.

وحين استقبله في منزله، كانَ َمنهمكٌ في حياكة الأقمشة، فبادرهُ قائلاً:

- كيف حالك يا مازن؟ هل كل شيءٍ على ما يرام؟

التفت إليه مازن قائلًا: نعم، نعم بخير، كيف حالك أنت؟

-ممتاز، أما والدي، فَـ.

-والدك! ما لهُ؟.

-إنهُ يودعُ هذه الحياة.

-إلى هذا الحد ساءت حالهُ؟.

-أكّد طبيب قريتنا أنه قد لا يصبر حتى نهار الغد، على كل حال أخبروني أنك تقبلُ العناية بكبار السن؟، فكم تأخذُ للعناية بأبي جملةً؟ لأنني منشغل في أعمالي.

وأجابَ مازن بنبرة جافة: إذا كانوا يخدمون أنفسهم بأنفسهم آخذ على اليوم والليلة خمس دنانير، والضِعف إذا كانوا في حاجة للمساعدة.

وراح جواد يفكر إنّه يعرف أبوه، ويعرف مقدار مقاومته للمرض، فلربما عاش أسبوعاً آخر رغم زعم الطبيب بموتهِ العاجل، فأجاب الشاب قائلاً: إنني أريد أن أكافئك إجمالياً لإتمام المهمة، إنه نوع من المقامرة، فلقد أكد الطبيب أنه سيموت حالاً، وبالتالي سيكون لك عندي عشر دنانير.

نظرَ مازن إليه باستغراب؛ فلم يسبق لهُ أن عامل محتضراً على الظنون وتردد لحظة، وبرقت في ذهنه احتمالية أن يتعرض للخداع، فقال من فوره:

-دعني أراه أولًا..

-إذن هيا بنا

ونهض مازن عن طاولة الخياطة ثم تبعه صامتاً طوال الطريق، وحين مرورهم بكرم العنب، تمتم جواد: سأبدأ في جنيك اليوم.


لم يكن الشيخ المسن قد لفظ أنفاسه بعد، بل كان مستلقياً على ظهره، وقد امتدت يداه فوق غطاء الفراش الملون وقد بدا عليه الضعف والهزل، واتجه مازن نحو الفراش ثم حدّق في الرجل المحتضر وجسَّ نبضه، ثمّ مرَّ بيده على صدره وهو يصغي لحشرجة تنفسه البطيء الذي يشبه النزع، وألقى عليه بعض الأسئلة ليتأكد من ضعف صوته، ثم غادر الغرفة بعد الانتهاء من فحصه يتبعهُ جواد، كان يرى بشكل شخصي أن الشيخَ لن يظل حيًا حتى الغد.

فسأله جواد بنفاد صبر: والآن؟.

-فأجابه مازن بمكر: سيعيش يومين وقد يكمل ثلاثة أيام، وسأتقاضى منك ثلاثين ديناراً

وردد جواد قولها: ثلاثون ديناراً! هذا كثير كثيرٌ جداً أجننت؟، إنه لن يعيشَ حتى الصباح على الأكثر!.

واشتد الجدل بينهما، ولوّحَ مازن بالرحيل. فتذكّر جواد عِنَبَهُ الذي ينتظر الحصاد، فلم يجد بدّاً من الخضوع فأردف مستلسماً: سأضع المبلغ كاملًا في يدك على أن تنهي الأمر بشكل كلي مهما طال زمنه.


وأوسع خطأه نحو الحقل في حين رجع مازن إلى حجرة المريض وهمس قائلًا له: لا شكَ أنكَ تريدُ الصلاةَ وقراءةَ شيءٍ من القرآن؟.

وأشار الشيخ المهدّم برأسه إيجاباً، فنهضَ مازن وبه رهبةٌ وهو يهتف: يا رب العالمين! أيعقل أن!، سأذهب فوراً لإحضار ماءٍ للوضوء.

وأسرع الشاب في طريقهِ نحو إناء الماء وملأ منه الدلو، وقام بتوضئة المُحتضر، وقال له: صلِ بعينيك، ثمَّ رَدّدَ بعض الآيات القرآنية ليتمتمها خلفه، وشحب لون النهار، وازدادت برودة الجو، وراحت فراشات الليل تحوم حول النافذة تحاول التحرّر من أسرها كروحِ الشيخِ الذي كان راقداً دون حراك وعيناه محملقتان وكأنهما في انتظار رؤيةِ مَلَكِ الموت، بينما أنفاسه تتدافع من صدره بطيئة ذات صفير أليم.


وعاد جواد فوجد والده ما زال على قيد الحياة، فتساءل دهشاً عن كيفية حصول ذلك، ثم ودع مازن بعد أن أَوصاه أن يعود في تمام الساعة السادسة من صباح اليوم التالي. وفعلًا عاد عقب انبثاق الفجر بقليل وأسرع بسؤال جواد: ألم يمت والدك بعد؟ فردّ عليه وهو يسير نحو الحقل: لا وأظنه قد تحسن أيضاً.

ضاق مازن ذرعًا، فتوجه حالًا إلى حجرة الشيخ فوجده كما كان بالأمس تماماً، هادئاً ساكناً، مفتوح العينين، ويداه ممدودتان فوق غطاء الفراش، يبدو عليه الضعف والوهن، ورأى مازن أن الرجل يمكن أن يعيش يومين أو ثلاثة بل ربما عاش أسبوعاً كاملًا، فشعر بحنقٍ كبير وكرهٍ عظيم نحو جواد الذي خدعه بوالده الذي يأبى الموت، وظلّ محدّقًا في الشيخ طيلة النهار حتى عاد جواد لتناول الغداء، ثم قفل راجعاً إلى الحقل لإكمال حصاد عنبه، أمّا مازن فكاد يفقد شعوره، فقد خُيّل إليه أن وقته يذهب سدى، وأن من حقه أن يتقاضى أجراً لقاءه، وأحس برغبة قوية في أن يضغط على ذلك العنق الهزيل فيخمد أنفاس الرجل الذي كان يسلبه وقته الثمين ولكنه كان يدركُ بشاعة ما يفكر به، حتى راودته فكرة أخرى، فاقترب من الرجل المحتضر، وهمس يسأله: ألم ترى ملاك الموت بعد؟.

فأجابه الشيخ بصوت ضعيف: لا.

وابتدأ مازن يقص على مسامعه قصصًا مخيفةً، فقال: أن ملاك الموت يظهر عادة لهؤلاء الذين يوشكون على الموت قبل موتهم بقليل، ثم راح يصف له شكله، واستمر في حديثه المخيف، فعدد له أسماء مَن زعم أنّ ملاك الموت ظهر لهم قبيل موتهم، وفعل ذلك الحديث فعله في الشيخ، فبدا خائفاً مضطرباً لا يستقر رأسه على الوسادة.

واختفى مازن حينئذ وراء حاجز بجانب الفراش، وتناول من صندوق بالقرب منه ملاءًة بيضاء ألقاها فوق رأسه فغطاه حتى أخمص قدميه، وفجأة خرج من خلف الحاجز وبدا بهيئته أمام المحتضر، ومرت لحظة رعب وفزع، حاول الشيخ الهروب بكل ما يملك من قوة من ملاك الموت، ولكنه ما كاد يتحرك حتى خانته قواه وارتمى على الفراش وانتهى كل شيء، وبكل هدوء وبساطة أغلق مازن عيني الرجل الميت، العينين الفزعتين الشاخصتين في خوف وجزع.


نهاية عجوز

حين عاد مازن من حقل الكرمة عند الغروب وجد مازن ممسكاً المُصحف يقرأ منه لروح الميت، فأيقن أن روح أبيه قد بارحت جسده وبدأ يفكر ويحدث نفسه:

لقد استمر الشاب في خدمةِ أبي يومين، أي أنّ أجره كان يجب أن يكون عشرين ديناراً، ولكنني ملزمٌ بدفع ثلاثين بناءً على اتفاقنا، ودمدم مغضباً: يا لسوء حظي، لقد خسرتُ عشرة دنانير!.