الفصل الأول: جلسة عائلية

عاد التاجر أبو أكرم إلى بيته في المساء مُتعبًا بعد يوم طويل من العمل حافل بالأخذ والردّ مع الزبائن، وبعد أن استلقى على الأريكة وتنهّد قال لزوجته: إنني أتضور جوعًا، حضّري لي من فضلكِ العشاء بينما أبدّل ملابسي، فزبائن اليوم لم يتركوا لي مجالًا لشربة ماء واحدة! فنادت الزوجة على ابنتها قائلة -وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة حنونة-: هيّا يا سماح لمساعدتي في تحضير الطعام قبل أن تُعلّق لنا المشنقة إن تأخرنا، ثم دخلت مسرعة إلى المطبخ.


اجتمعت العائلة على مائدة الطعام؛ أبو أكرم وزوجته وابنتهما سماح وابنهما الصغير أحمد، فسأل أبو أكرم مندهشًا: وأين أكرم عن هذه الجلسة العائلية؟ فأجابت الزوجة: كعادته، جالس مع أصدقائه في الباحة الخلفية للمنزل، وهم يمرحون ويضحكون وكأنّه لا همّ على قلبهم ولا عائلة لهم، هزّ أبو أكرم رأسه بأسف وقال: لا فائدة من هذا الولد، أصبح في العشرين من عمره وما زالت السهرات وتجمعات الأصدقاء همّه الأول والوحيد، أُذن من طين وأُذن من عجين.

الفصل الثاني: ربع صديق

في تلك الليلة بقي أبو كرم ساهرًا حتى انصرف آخر شخص من أصدقاء ولده أكرم، فدعاه إليه وبدأ يُعاتبه على تلك الجلسات والسهرات التي لا فائدة منها، فقال: اسمع يا أكرم، من خبرتي في الحياة هؤلاء الأشخاص لا يُريدون منكَ سوى المصلحة والكسب، فها أنتَ في كل ليلة تدعوهم عندكَ وتُنفق عليهم الشيء الكثير، وما إن ينتهي ذلك كلّه حتى يتركوك وحيدًا، فردّ أكرم: لا تظلمهم يا أبي، الثلاثون شخصًا الذين رأيتهم كلّهم صديق حميم، وهل تستكثر عليّ هؤلاء وأنتَ لكَ مئات الأصدقاء؟!


تفاجأ أبو أكرم من كلام ولده وقال: من زرع تلك الأفكار الفارغة في رأسك، ها؟ أنا في كلّ هذه السنوات التي عشتها لم أظفر يوى بربع صديق، ونصف صديق وصديق واحد، ردّ أكرم: وكيف يكون هناك ربع صديق ونصف الصديق، لم أفهمها؟ فأجاب والده إجابة مقتضبة: الصداقة الحقيقية تظهر وقت الشدائد والمِحَن، وبقدر المواساة والتضحية تكون الصداقة، وسيأتي يوم تفهم فيه ما أقصد، فهزّ رأسه هزّة من لا يُصدّق شيئًا مما قيل.


وفي إحدى الليالي الباردة في الباحة الخلفية ومع اقتراب نسمات الفجر بينما أكرم يلهو مع أصدقائه كالعادة سمع أكرم صوت والده يُناديه، فنهض إليه ليرَ ما يُريد، فارتاع مما رأى؛ ثيابه ملوّثة بالدم، وفي يده سكين يقطر منها الدم قطرة قطرة، وبينما هو واقف مندهش قال له أبو أكرم حازمًا وبصوت منخفض: اصرف أصدقاءك من هنا، فأسرع أكرم دون وعي إلى رفاقه وصرفهم، فعاد إلى أبيه ووجده قد غسل يديه وأخفى ثيابه ولبس غيرها، وسمع منه جملة واحدة: انسَ ما رأيت ولا تنبس ببنت شفة، فما رآني أحد غيرك، ثم ذهب كل منهما إلى فراشه.

الفصل الثالث: الصداقة الحقيقية

استيقظت عائلة أبو أكرم في صباح اليوم التالي على صوت قرع قويّ على الباب، وكان أول من نهض أكرم الذي أسرع إلى الباب وفتحه، وكانت صدمته حينما رأى رئيس الشرطة المعروف بين أهالي الحي مع عدد من رجال الشرطة، فقال: معي أمر بتفتيش هذا البيت من فضلك، فدخلوا وعثروا على السكين وثياب أبو أكرم الملوثة بالدماء، وتمّ القبض على أبو أكرم بتهمة القتل! وصدر أمر بأن يُطاف به في الحي كاملًا جزاء له ثم يُعدَم.


وبالفعل ركب أبو أكرم على عربة مكشوفة ومن حوله رئيس الشرطة وعدد من رجال الأمن، وبجانبه أكرم يقف يائسًا حزينًا وقد تذكر تلك الليلة التي رأى فيها والده ملطخًا بالدماء، وبدأت جموع الناس لترى ما جرى، وبينما العربة تجول في الشوارع وصلت إلى سوق التجار، فخرج رجل من كبار التجار من محله وقال: أنا أدفع نصف مالي فداءً لهذا الرجل، إلا أنّ رئيس الشرطة رفض رفضًا قاطعًا، فعاد التاجر إلى محله يبكي بُحرقة، فقال أبو أكرم لولده: هذا ربع صديق يا بني، فأين أصدقاؤك حتى يساندوك في محنتك؟ فلم يستطع أكرم الرد.


وبعد مسافة ليست بالطويلة ومن محل آخر خرج تاجر وقال لرئيس الشرطة: أدفع مالي كلّه فداء لهذا الرجل، فرفض مرة أخرى وأصرّ على موقفه لإعدام أبي أكرم، وهنا قال أبو أكرم لابنه: هذا نصف صديق يا بني، ووالله إن بريء من تلك الدماء، فتعجب أكرم من قول أبيه ولم يفهم شيئًا، وفي شارع آخر وبينما العربة تسير خرج تاجر وقال بأعلى صوت: هذا الرجل بريء، وأنا هو القاتل، فهمس أبو أكرم لولده: هذا هو الصديق ولكنه بريء، وأسرع الرجل إلى أبي أكرم ليركب مكانه، لكنه رفض وقال: لا أقبل منك التضية فأنا أعرف تمام المعرفة أنك بريء.


هنا وقف رئيس الشرطة وقال: أبو أكرم بريء من تهمة القتل والدماء التي كانت على ثيابه دماء خروف كان قد ذبجه في منزلي، ولا جريمة قتل حدثت من الأساس، وقد أراد أبو أكرم أن يمثّل هذا الدور ليثبت أنّ الصداقة الحقيقية موجودة وأنّ الخير بين الناس لا ينقطع.



ولقراءة المزيد من القصص ذات العِبَر والحِكَم: قصة البادئ بالشر أظلم، قصة طمائر الذهب.