الفصل الأول: أبو الفهد

كان أبو الفهد شابًا في الثلاثين من عمره، وهو يتمتع بالدهاء والذكاء والفِطنة، كما كان واسع الخبرة والتجربة ولديه بصيرة حَسنة تجاه مختلف الأمور، ولاجتماع كلّ هذه الصفات فيه تمّ تنصيبه شيخًا لقبيلته، وقد عُرف عنه شدة محبته للصيد وكثرة مطاردته للغزلان. وفي يوم من الأيام جهّز أبو الفهد نفسه للخروج لصيد بعض الغزلان البريّة، وموّن نفسه ببعض الأطعمة ليسدّ بها رمقه في رحلته.


مضى اليوم الأول لأبي الفهد في الصحراء دون أن يصيد شيئًا، وكذلك مرّ يومه الثاني وكان قد أتى على كلّ ما معه من طعام، وفي اليوم الثالث بينما هو يمشي في الصحراء متعبًا والشمس قد قاربت على المغيب التقى برجل في مثل عمره تقريبًا يبدو عليه أنّه فلّاح فطلب منه الطعام، فأخبره الفلاح واسمه شعبان أنّه لا يملك إلا رغيفًا لغدائه، فقال أبو الفهد: إنّ بيتك قريب وبيتي بعيد، وقد أنام في الصحراء ولا أستطيع صيد شيء، فهل لكَ أن تعطيني نصف الرغيف بنصيحة؟ سكت شعبان بُرهة ثم قال له: حسنًا، فأعطاه نصف الرغيف وأكله أبو الفهد، وقال شعبان: هات النصيحة، فردّ عليه: "لا تُطلع امرأتك على سرّ تحرص عليه".


سخر شعبان من نصيحة أبي الفهد ولم تُعجبه، فتنبّه له أبو الفهد ثم قال: هل أُعطيك نصيحة أخرى بالنصف الثاني من الرغيف؟ فردّ عليه: نعم، ثمّ ناوله نصف الرغيف، فأخذه أبو الفهد وأكله ثم قال: "لا تُجرّد سلاحك أمام محضر من الناس"، وأيضًا لم يُعجَب شعبان بالنصيحة وقال في حسرة: وا ضيعة الرغيف، فردّ عليه أبو الفهد: لقد كنتُ بحاجة إلى رغيفك، لكني أعدكَ إن احتجت إلى معونة فأنا من سأُجازيك، فقط اسأل عن أبي الفهد شيخ العشيرة في المنطقة، ثم انصرف وترك شعبان في حسرته.


الفصل الثاني: الدهاء

مرّت الأيام والشهور وأقبل الربيع فنما الزرع واخضرّت الأرض، وبينما كان شعبان يتفقّد أرضه لاحظ بين سنابل القمح نمو بطيختين كبيرتين فتعجب لهذا الأمر، وقرر في المساء أن يُخبر الناس بما رأى، فاستغربوا لكلامه إلا واحدًا تصدى له يُكذّبه، فقامت بينهما مشادّة كلامية انتهت بالرهان بينهما بأن يأخذ الصادق من مال الكاذب مقدار قبضة يقبضها بيده، واتفقا على أن يخرجا في صباح اليوم التالي مع قاضي المنطقة لمعرفة حقيقة الأمر.


كان الرجل الذي تراهن معه شعبان من أقارب زوجته، فانسلّ من بين الجميع وذهب إليها مُسرعًا ليعرف منها في أي جزء من الأرض توجد البطيختان، إلا أنها لم تكن تعلم بالأمر لكنها وعدته أن تحاول معرفة ذلك من زوجها، وفي أثناء حديثهما عاد شعبان إلى بيته فاختبأ الرجل في السدّة سريعًا، فجلست الزوجة مع زوجها شعبان واستطاعت بحنكتها أن تعرف قطعة الأرض التي توجد فيها البطيختان وكان الرجل يستمع لحديثهما باهتمام، ولما عرف المكان بالتحديد وخَلُد شعبان إلى النوم انسلّ الرجل من مكانه وأسرع إلى الأرض وأزال البطيختين.


في صباح اليوم التالي خرج الرجل وشعبان مع القاضي تنفيذًا للاتفاق الذي تم، لكنّ المفاجأة كانت أنه لا أثر للبطيختين، وبذلك كسب الرجل الرهان وحكم القاضي على شعبان بأن يدفع له من ماله، لكنّه طلب مهلة مدة أسبوع فوافق القاضي. تذكّر شعبان أبا الفهد الذي لقيه في الصحراء وقرر أن يتوجّه إليه على الفور، ولما وصل إليه ذكّره به وقصّ عليه ما حدث معه، فقال أبو الفهد: لقد أصابتك امرأتك، وكنتُ قد نصحتك ألا تذكر لزوجتك سرًا تحرص عليه، لكن لا فائدة للوم الآن، ثمّ دلّه على حيلة ليمنع بها ذلك الرجل من أخذ ماله.


كانت الحيلة أن يضع شعبان ما يملك من مال في سدّة منزله ويجعل قُرب السدّة سلمًا خشبيًا درجته العليا منشورة من الجهتين بمقدار يُبقيها ثابتة مؤقتًا فتسقط من أبسط حركة، وبالفعل نفّذ شعبان تلك الحيلة، ثم حضر الرجل مع القاضي ليأخذ من المال، وبدأ بصعود السلم عند السدّة، ولما اقترب من نهايته مسك بالدرجة الأخيرة فخرجت في يده وتدحرج هو عن السلم والخشبة ما تزال في يده فحكم له القاضي بها فقط، وخرج الرجل من المكان خاسرًا ذليلًا.


الفصل الثالث: البادئ بالشر أظلم

عرف شعبان غدر زوجته وقرر أن يُطلّقها وينتقل للعيش في قبيلة أبي الفهد، فجهّز أمتعته كلها وخنجره أيضًا واستقرّ هناك، وبعد مضي شهر على سكنه كان يجلس في يوم من الأيام على الطريق العام يتأمل خنجره مزهوًا به، وفي هذه الأثناء مرّ أحد أفراد القبيلة من أمامه وادعى بأنّ هذا الخنجر له، ودلّل على ذلك بأن أحضر غِمدًا كأنما فُصّل له، مع أنّ شعبان متأكدّ من أنّه له وقد شراه من المدينة، لكن لم يكن من شعبان إلا أن قال له حزينًا: سأسلّمك الخنجر عند القاضي غدًا.


في تلك اللحظة قرر شعبان الذهاب إلى أبي الفهد وقصّ ما حدث معه حول الخنجر، فردّ عليه أبو الفهد: لقد خالفت نصيحتي مرة أخرى، فقد قلتُ لك لا تجرّد سلاحك أمام محضر من الناس، لكن هذا ليس وقت اللوم، ودلّه على حيلة يُنفذها عند القاضي. وفي صباح اليوم التالي التقى الخصمان أمام القاضي، وذكر الرجل أنّه رأى خنجره مع شعبان، فردّ شعبان كما علّمه أبو الفهد: يا حضرة القاضي، لقد فقدتُ أخي منذ ثلاث سنوات ثم وجدته مذبوحًا في البريّة ووجدتُ هذا الخنجر بجانبه ملوثًا بدمه، فأخذته وتنقّلت بين القرى والبوادي لعل أحدًا يتعرف عليه فيكون هو قاتل أخي، وقد رآه هذا الرجل أمس وأحضر غمده الأصلي، إذن فهو قاتل أخي وأريد أن تُنصفني بأخذ ثأري منه.


تفاجأ الرجل مما سمع ورأى أنّ الأمر تحوّل ضده، وحاول التنصّل من القصة لكنّه لم يُفلح، وكان الخيار لشعبان بأن يعفو عنه أو يقبل بالدية، فقبل بالدية وقدرها مئة ناقة، هنا ضحك أبو الفهد ضحكة طويلة وقال: البادئ بالشرّ أظلم.