ثِمارِ الشائعات

لمحَ الفتى محمد طالب التمريض في السنة الرابعةِ جارهُ أبو رأفت قادماً من بعيدٍ وفي يديهِ من الأكياس ما يصعب حمله على إنسانٍ في مثل سنهِ، فحدثتهُ نفسهُ النبيلةُ بمساعدتهِ، فأصغى لصوتِها وأسرعَ يحثُ الخطى نحوه.

دُهش محمد وأحس بالإشفاق عندما وجدَ فمهُ وأنفهُ مكشوفانِ بلا كمامة، وعندما أدركه راحَ يقول مُحنياً جذعهُ: هات الأكياس عنك يا عمّاه، فهم ثِقالٌ عليك.


قال الشيخ أبو رأفت بنبرةٍ شاكرةٍ ممتنةٍ: شُكراً لكَ يا بُني، لقد تعذبتُ في حملها من السوق، شُكراً لك.

ومضيا معاً يقصدانِ منزل الشيخ أبو رأفت، وآنذاك قال محمد بلغةِ الواعظِ: تعرفُ يا أبا رأفت أننا نمرُ في ظروفٍ وبائيةٍ صعبة، فلقد شاءت إرادةُ اللهِ أن يغزونا هذا الوباء، وأنهُ طبقاً لِمعرفتنا بخطورتهِ كما تحدث المختصون بذلك، صار جديراً بنا ارتداءُ الكِمامات حِفاظاً على أنفسنا وأنفس الآخرين من إلحاق الأذيةِ بنا وبهم!.

ضحكَ الشيخ أبو رأفت وقالَ وهو يرشق الشاب بنظرةٍ مشفقة: إنكم تبلغون من سذاجة الطفولةِ بحيث تصدقون معها كل شيءٍ يا بُني!.

ووضعَ الشاب الأكياسَ أمام بيته، دون أن ينبس ببنت شفةٍ رُغمَ دعواتِ الشيخِ له بالدخول.


٢

بعدَ مُضيِّ أسبوعٍ على روحاتهِ وغَدواتِه دونَ اتخاذِ الاحتياطات اللازمةِ للحالةِ الطارئةِ التي تمرُ فيها البلاد، شاركَ خلالهُ في أعراسٍ وتأبيناتٍ وجلسات ومسامرات، أحسَّ بالآمِِ في صدرهِ اضطرتهُ للقعودِ، وعندما عرف أبناؤه بأن صحةَ أبيهم قد توعكت، اصطحبوا زوجاتهم وأولادهم وذهبوا لعيادته، وبعدَ أن حيّوهُ وجلسوا، قال حفيدٌ له صغير: يبدو أنك مصابٌ بتلك العدوى يا جدي!.

فقالَ الشيخ الكبير: لا يا صغيري، إنما أنا مصابٌ بلفحة هواء من جراء استحمامي بماءٍ ساخنٍ وتعرضي بعدها لهواء بارد كما أظن، المسألةُ تحتاج لبضعةِ أيامٍ وأبرأُ منها.

وقالَت زوجةُ أحد أبنائهِ وكانت ربةُ بيت: جميعنا نصابُ بلفحة الهواء يا عماه في مثل هذا الوقت، ولن يُثنينا ذلكَ عنِ تكذيبِ هذه الدعايات الإعلاميةِ المُضللة.

وقالَ زوجها شفيع بنبرةٍ حيرانة: واللهِ إنّ الواحد منا لا يعرفُ أن يستقر برأيه على أمر، فمن جهةٍ عندما يتطلع إلى نفسه وأهلهِ وخاصته ويشاهدُ كيفَ أنهم لم يصابوا بسوء على الرغم من عدم التزامهم بسبل الوقاية منه يقولُ في دخيلةِ نفسهِ أنهُ كذبٌ ومحضُ افتراء، لكنه في ذات الوقت يسمعُ آخرين يروونَ معاناتهم معهُ، وكيف أنه فتكَ بأحبائهم وأعزائهم، واختطفهم من بينهم بلمح البصر!.

بادرهُ أخوه يوسف بنظرةِ ازدراءٍ وقال بنبرةِ الفقيهِ العليم: يا أخي أتراكَ نسيتَ أن الناسَ يموتونَ منذُ قديمِ الزمان؟ ما أعجب أمركم! أم ترى أنّ أسباب الموتِ انعدمت باستثناءِ هذا الكائنِ المجهري المزعوم!. قال ذلكَ وهو يضحك ساخراً من أخيه الأصغر الذي كان يضعُ كِمامةً على فمه وأنفه.

وقال أصغرُ الإخوة ليث وكانَ أُستاذاً في الفيزياء عندما لاحظ نظرات أخيه الساخرة: لا ينبغي أن تقولوا ذلك يا إخوتي في حضرةِ أبينا، إذا كنتم تحبونه وتخشون عليه حَقا، فالوباءُ حقيقةٌ جلية مهما حاول مروجو الشائعاتِ التشكيكَ في وجودها! ثم إن الشائعة ليس لها دليلٌ لإثبات نفسها، فهي مجردُ أقاويل وحكايات شعبيةٍ لا أساس منطقي لها! ومن ألطافِ الله أننا لم نكن إحدى ضحاياها بعد، هذا كل شيء!.

قالَ يوسف لأخيه بلغةٍ جافةٍ: يا أخي أنتم المتعلمونَ تقولون كلاماً مُنمقاً يعارضُ الرأيَ العام لتشعروا أنفسكم بلذة التفوق الوهمي! هه خالف تعرف!.

وتبرمَ الأستاذ ليث دون أن يرد عليهِ بكلمة، ونهضَ قائلاً لزوجته وأولادهِ أن ينهضوا معه ليغادروا الجلسة، وقبل أن يهم بالخروج حيّا والدهُ من بعيدٍ وأوصاه قائلاً: أرجو منك أن تأخذ حذرك يا والدي وألّا تأخذَ هَذيان الناسِ وثرثراتهم المجنونة على محمل الجد! آه نسيت أن أقول لك أنني وأثناء مجيئي إليك رأيت جارنا الشاب المهذب والطيب محمد وعرضتُ عليه أن يطل عليك في الغد وكل يومٍ إذا استطاع ذلك فأبدى موافقته، الآن أستودعك الله يا والدي.

قالَ ذلك وخرج مع عائلته، وقال أخوتهُ بعد رحيله أنه متأثرٌ في الجانب العلمي الرائجِ في هذا الزمان.


٣

خرجَ محمد صبيحة اليوم التالي مُتأبطاً ثوبهُ الأبيض قاصداً كلية التمريض، فتذكر وصية الأستاذ له بخصوص أبيه، فعرّجَ متجهاً لبيتهِ بغيةَ الاطمئنان عليه، ولمّا طرق البابَ تهمل وقتاً ليس باليسير حتى فتح الشيخ له البابَ وهو ينهجُ محاولًا التقاط أنفاسه بصعوبة، ولما شاهده محمد متعباً هكذا سألهُ بخشيةٍ: ما لكَ يا عم، هل عانيتَ من الربو من قبل؟.

اجتهدَ الشيخُ ليتحدث فقالَ بصوت متقطع: لـم يسبق لي وأن عانيت منه، لأول مرةٍ أُصابُ بهذا الضيق في التنفس، أنا أتعذب يا بني!.

فقال الشابُ يُحدثُ نفسه وهو يلبس كِمامته: يبدو أنهُ أصيبَ بالمرض، وهو الآن يفتك بِرئته! رباه ما العمل؟، ثم أخرج هاتفهُ دون أن يستشير الشيخ واتصل بالإسعاف.

وقال للشيخِ: اجلس في مقعدك ولا تبذل مجهوداً بدنياً وأرح نفسك من الكلام حتى لا تشعرَ بمزيدٍ من الضيق في التنفس، فامتثل الشيخُ لكلامه.

واتصل من جديدٍ بابنهِ ليث وأخطرهُ باشتباهه بإصابة والده بالمرض وأنه على إثر ذلك استدعى الإسعاف، واستعجلهُ بالمجيء لتتبع حالة أبيه لأنهُ مضطرٌ للذهاب إلى الجامعة.


٤

في المستشفى وقف الأستاذ ليث إلى جانب أبيه الذي أخذ يصدر من صدره صوت حشرجة، بينما يأخذ الممرضون مسحة من أنفه للكشف عن حقيقة إصابته بالمرض، وَراحَ يخاطب والده ليرفع من معنويته: لا تقلق كل شيءٍ سيصير على خير ما يرام يا والدي، فأنت هنا بين أيدٍ أمينة.

فقال له أبوهُ بصوت واهن: قل لأخوتك أن يأتوني.

-لقد فعلت ذلك يا أبي ولم يتبقَ الكثير على وصولهم.

وفي الأثناء قال الطبيب: نتيجتهُ بالفحص السريع كانت إيجابية، لذلك ينبغي أن ندخله قسمَ العزل ونضعهُ على جهاز الأكسجين، بانتظار ظهور النتيجة الأكثر دقة فهي تحتاج وقتاً أطول.

وعندما همّوا في إدخاله قسم العزلِ لتقديم الرعاية الطبية له، وصلَ أبناؤه وأوقفوا الممرضين قائلين: نريد أن نتحدث مع أبينا في شأنٍ خاص، وبعد شدٍ وجذبٍ رضخ الممرضون مرغمين تحت إلحاح الأبناء، فقال ليث: ما هذا الذي تفعلونه أجننتم؟، فقال يوسف صارخاً: بل أنت من جُن وضعف عقله، كيف تُسلِم والدك إلى الموت هنا؟.

فقال ليث متعجباً: أنا جننت، وأسلِم قيادَ والدي للموت؟.

رد يوسف: ألم تسمع ما الذي يُقالُ عن هؤلاء! يدّعون أن المريض مصاب بتلك الخرافةِ، ثمَّ يدخلونه غرفاً خاصةً ليقتلونه فيها لا لن أسمحَ بأن يدخل والدي المستشفى.

فيقول ليث محنقاً: توقف عن حماقاتك رئةُ والدك متعبة وفي حاجةٍ إلى جهاز أكسجين!.

فقط؟ سأجلبُ له جهاز أوكسجين وأسهر على راحتهِ في المنزل!.

ويمسكهُ يوسف وبقية أخوته ويحلمونه ويفرّون به من المستشفى على مرأىً من الأستاذ الذي كان حزيناً من عدم قدرته على فعل شيء.


٥

مكثَ الشيخُ على جهاز الأكسجين الذي جلبه أولاده له منذ أربعة أيام، حيث كان وضعهُ مستقراً في البداية ثم في الأيام الثلاثة الأخيرة أخذ وضعه يزداد سوءاً وبدت الزرقةُ تظهر على وجههِ وأطرافه، فقال ليثٌ باكياً آخر الأمر: ستقتلون أبانا يا أخوتي انظروا لحالتهِ كيفَ تزداد تقهقراً! أرجوكم دعونا ننقلهُ إلى المستشفى من جديد لعل الأطباء يلحقونَ ما بقيَ من رئته التي نهشها المرض!.

وعندما لاحظ الأبناء أن جهاز الأوكسجين لم يعد ينفع مع والدهم، آمن الأخوة بدورِ العلمِ والطب في القدرةِ على شفائه فحلموهُ وقد أُغشيَ عليهِ للمستشفى، وبعدَ أن شرحَ له الأستاذ ليث حقيقة ما جرى من الألف إلى الياء، أمرَ الطبيب بصورةٍ طبقيةٍ لصدرهِ، وبعد أن أمعنَ النظر فيها قال: لقد تأخرتم في جلبه، فلم يعد بإمكان الطب تقديم شيءٍ له وأيامه معدودات! ونظر ليثٌ لإخوته ناشجاً وقال: لقد قتلتم أبانا بإصغائكم للشائعات.