عهد الأصدقاء

في إحدى عشوائيات المدن الفقيرة عاش الصديقان وليد وقصي في نفس الحي، وكبرا معاً مُنذ الطفولة فكانا يذهبان للمدرسة معاً، يأكلان ويلعبان معاً، ويفعلان كلّ شيء سويّاً، مما جعلهما أكثر من أخوة، إلى أن اضطرّ الصديقان إلى ترك المدرسة في وقتٍ مُبكّر؛ لإعالة نفسيهما وأُسَرِتيهما، باحثين عن عملٍ أو حرفة يحترفانها.


رحلة البحث عن مخرج

بَدَأ الصديقان العمل في ورشة لتصليح المركبات في مرحلة المراهقة إلى أن احترفا هذه المهنة جيداً، فاقترح قصي على وليد أن يفتحا ورشة خاصّة بهما، استغرب وليد من فكرة صديقه وقال له: ومن أين لنا المال لإنشاء ورشة؟، فنحن لا نملِكُ سِوى قوتِ يومنا، وأنت أكثر مَن يعرف ما سيكلّفه مشروع كهذا.

قال قصي: أعلم ذلك يا رفيق، لكنني فكّرت طوالَ الليل بذلك، فقلتُ لما لا نستدين ما ستكلّفه الورشة من صديق والدي أبي أحمد، إنّه رَجلٌ مُقتَدِر وطيّب القلب، ولن يَرُدُّ لأبي طلباً.

فكّر وليد قليلاً، ثم قال والبسمة بادية على وجهه: فكرة جيّدة، آمل أن يوافق.

ذهب والد قصي لطلب المال من صديقه أبي أحمد، فأعطاه تكلفة الورشة بكلِّ رحابة صدر، وما إن عرف قصي ذلك حتى ذهب لِيُبشِّر وليد بهذا الخبر،

وقال له والحماس يقفز من عينيه: لقد أعطانا العم أبو أحمد النقود لِفتح الورشة، كما أنه أمهلنا سنتين لِردّ المبلغ، يا لكرمه!.


فرح وليد بهذا الخبر أيّما فرح، وبدأت رحلة البحث عن ورشة فارغة، وما لبث الصديقان إلّا أن وجدا مخزناً فارغاً في شارِعهما يَصلُح لأن يكون ورشة تصليح، باشَرَ الصديقان في تجهيز الورشة بما يلزم، وقاما بالترويج لها عن طريق نشر دعايات إعلانية لِأهالي المنطقة، فبَدَأ أهالي المِنطقة بتصليح مركباتهم عند الصديقان، ومضت الأيام والصديقان يجدّان ويتعبان في مشروع عمريهما، وبعد مدّة من الزمن أصبح مدخولهما اليومي منها جيّداً إلى حدٍّ ما، وسمعتهما طيبة في الحي والأنحاء.


خِيانة صديق

في يومٍ من الأيام جاء مسؤول في الدولة لزيارة هذه المنطقة الفقيرة ليَتطّلِعُ على أحوالها، وفجأة تعطّلت مركبته وتوقّفت عن الحركة، فسَأَلَ عن أقربِ ورشة تصليح في المنطقة، وما كان لأهالي الحيّ إلا أن يدلّوه على ورشة الصديقين، وبالفعل أخذها المسؤول إلى هناك ليبدأ وليد وقصي بصيانتها، وبعد أن استمرّ العمل فيها لساعات متأخرة من الليل، أصلحا العطل وقاما بتسليمها للمسؤول.

وفي صباح اليوم التالي جاء المسؤول للورشة والغضب بادٍ على وجهه، وصوت صراخه قد أدّى إلى تجمّع أهل القرية، إلى أن طلب منه أحد الأشخاص أن يشرح لهم سبب ثورته بهدوء ليستطيع أحدهم حلّ مشكلته، فردّ عليه المسؤول بغضب وقال: هذان الصديقان، كم هما بارعان بالتمثيل، هيّا أعيدا لِيَ المال المسروق قبل أن أجعلكما تندمان على فعلتكما هذه.

صُدِمَ وليد مما سمِعه وقال له: عن أيّ مال تتحدث؟


قام أهل القرية بتهدئة المسؤول، وطلبوا منه شرح ما جرى معه، فقال: نسيتُ مبلغاً من المال في صندوق المركبة في حقيبة سوداء ليلة أمس، وفي صباح اليوم بحثتُ عنه ولم أجده، ترى ما تفسيركم لهذا؟!.

نظر أهل الحي نظرة استغراب لبعضهم البعض، فيما قال مُختار القرية وهو رجلٌ يُعرَف بعدلِه وسُمعتِه الطيّبة: وما دليلك على أنّ هذان الشابّان هما من قاما بسرقة مالك؟

قال له: تعطّلت مركبتي بالأمس والمبلغ فيها، واليوم هممتُ بأخذه فلم أجده، وهما من أصلحاها لي، فما رأيك أيّها المختار الذكيّ؟ والآن إن لم يعد إليّ المال فسألجأ للقضاء لاسترداد حقّي.

انقضت الساعات دونما جدوى، وحضر رجال الشرطة لاحتجاز الصديقين بعد أن جمعت ضدّهما كلّ الدلائل، لا سيما الكاميرات الموجودة حول الورشة، والتي رصدت الحادثة فعلاً.

وبعد عدّة أيّام مثل قصي ووليد أمام القاضي، وعندما طلب منهما القاضي الإدلاء بأقوالهما قال قصي: لا تُكمل يا سيّدي، فأنا أعرِف الحقيقة بأكملها، ففي ذلك اليوم وعندما كنّا نُصلِح المركبة وجد وليد مبلغاً كبيراً من المال في الصندوق، فاقترح عليّ أن نأخُذه ونتقاسمه لكنني رفضت رفضاً قاطعاً، ونصحتهُ بإعادة المبلغ حيثما وجده، ولك أن تفهم ما حدث بعدها سيدي القاضي.


صُدِمَ وليد من حديث صديقه المقرّب، واعتقد أنه يمازحه لكن سرعان ما أيقن أنّه يتكلّم بجديّة بعد أن طلب منه القاضي الحلف على المصحف للتأكيد على أقواله، فيما حُكِم على وليد بالحبس لثلاث سنوات، قضاها وهو يبحث عن السبب الذي جعل صديق عمرِه يتصرف بهذه الطريقة، وفي هذه الفترة قام قصي بسداد دين الورشة لصديق والده، غير أنه قام بشراء مركبة حديثة، وأصبح يعمل بالتجارة حتى أصبح ثريّاً جداً، فيما ردّ هذا كلّه للورشة وما يأتيه منها من مردود.


خرج وليد بعد انقضاء مدّة محكوميّته ليجد صديق عمره على حاله هذا من الثراء الفاحش فعرف أنّه من سرق المال، وقرّر أن يدير ظهره للماضي ويبدأ رحلة البحث عن عمل، واستمر على هذا الحال أشهر عديدة، وكلما وجد عملاً مناسباً يعلم صاحب ذلك العمل أنه كان بالسجن فيعتذر منه ويرفضه، إلا أنه وبعد فترة ومن حسن حظّه لَقِيَ رجلاً يعمل في مجال العقارات، وسمحت له الفرصة أن يشرح له عن الظلم الذي تعرض له، فصدّقه الرجل وشعر أنه أمين، واقترح عليه أن يُدير له عقاراته؛ بسبب رغبته بالسفر والاستثمار خارج البلاد، فرِحَ وليد بهذا العرض ووافق عليه، وشعر أن هذا العمل هو تعويض عمّا مرّ به من ظُلم، وبفضله تحسّنت حالته الماديّة بشكلٍ كبير.


أمّا قصي فما مضى عليه أشهر منذ خروج وليد من السجن، إلا وقد تعرّض لعملية احتيال أدّت إلى خسارة أمواله جميعها، فيما حُكِم عليه بالسجن لقروض كبيرة لم يستطع تسديدها للبنوك، وفي يوم من الأيام جاءت والدة قصي إلى منزل وليد تطلب منه قضاء بعض الديون عن صديقه، وما إن وصلت إلى بيته حتى وجدت أُمّه، فبدأت بالتوسّل إليها، غضبت والدة وليد منها وقامت بطردها على الفور مستذكرة ما تعرض له ابنها من ظلمٍ بسبب ولدِها، وبعد عودة وليد إلى المنزل شرحت له أُمّه ما جرى، فأخبرها بأنّ والدة وليد قد جاءت إليه إلى المكتب، وأنّه قام بتسديد الدّين لإخراج قصي من السجن، غضبت والدته من تصرّفه وعاتبته على ما فعل، لكنّه لم يقدّم لها أي تفسير، ثم دخل إلى غرفته فوراً.


خَرَجَ قصي من السّجن، وعندما علِمَ من أخرجه شَعَرَ بالنّدم الشديد وفرِحَ في ذات الوقت؛ لأن صديقه المقرّب قد سامحه، فقرر الذهاب إليه ليشكره وعندما طَرَقَ الباب والحماس يملأ قلبه، فتح له وليد الباب ببرود فاقترب منه قصي ليعانقه، وما كان لوليد إلا أن يُبعده وهو يقول: لا ثِقة بعد الخيبة، وما فعلته لك هو ما ربّانا عليه آباؤنا فقط إن كنت نسيت، والآن اذهب، فالخيانة بمثابة خطأ طبي الاعتذار عنها لا يردّ لك عافيتك.