حياةٌ مُعَذّبة

الفصل الأول

الهمُّ والغمّ باديانِ في قسماتِ وجهها البائس، وهي التي تحاولُ بجدٍ وعناءِ أن تصُدَّ بيديها الضعيفتين عن وَلدِها يتيمِ الأب نَكبَاتِ الحياةِ ونوازلَ القدر التي لا تفتأ تعذبهُ بقسوةٍ دونَ كلل أو ملل، فينال منها حصةُ الأسدِ في صورةِ أخيهِ الأكبر غيرِ المسؤول "رافع" مدمنِ المخدِرات منذُ انتقال والديهِما إلى الرفيق الأعلى، وذلكَ بحثِّهِ على الدِراسةِ ومحاولة الشد من أزرهِ بعد يومِ عملٍ شاقٍ وطويلٍ في متجرِ ألبانِ أبو راشد في حيِّهما.


كانَ شقيقهُ عادةً يعود إلى البيتَ قُبيلَ انتصافِ الليل بقليل وهوَ تحتَ تأثيرِ المخدرِ، فيأخذُ يَشتمُ بعصبيةٍ وغلظة أُمَهُ وأخاهُ، فلا يبقي لهما زاد من كرامة: هاتَ ما جنيتهُ الشهرَ الماضي دونَ إبطاء!.

تصرخُ أم رافع بحنقٍ مُستعرٍ في وجهه: أُغرب عن وجهنا أيها المدمن، لن تنال قرشاً واحداً من الغَلة.

فيجن جنون رافع، ويهجمُ على َمحمود المنكمشِ على نفسهِ رُعباً في زوايةِ الغرفة لولا أن اعترضته الأمُ بإمساكها طرف قميصه من خلاف، فأسقطته أرضاً، ورفعت نبرة صوتها قائلةً: محمود اهرُب إلى غرفتي، وأغلقِ البابَ خلفكَ بالمفتاح.

ومثلَ البرقِ يركضُ مُوليًّا الأدبارَ، فيدخل الغرفة ويصفقُ الباب خلفه بحركةٍ هستيريةٍ ويُدوّر المفتاح في الثقب، ويظلُ الاضطرابُ سيدَّ الموقف، وتتعالى أصواتُ الصراخِ والشَتائم هنا وهناك، وتتناهى إلى كافةِ ممرات المبنى، وما هي إلا بعض دقائق حتى يحتشد الجيرانُ وذوو القربى فيضعوا حدًا لهذه الجَلبة.


الفصل الثاني

ينطلق محمود ماشياً كل صباح إلى المدرسة التي تقعُ في البلدة المجاورةِ لبلدته، ويدخل صَفهُ الضيق مرهقاً مُتجهماً ويجلس على مقعده الأخير منتظراً أول حصة، ويضعُ رأسه على ظهر المقعد وينام ليستيقظ على صراخ الأستاذ: أتجرؤ على النوم في حصتي؟ أين حَلُّ الواجبِ يا أبله؟

كذا قالَ المعلم ذو الجثةِ الهرقليةِ بينما يتجهُ بغضب نحو محمود لما يبديه من سكون وراحة وسلام نفسي، فيقول محمود وهو يفرك عينيه: لم أستطع حلّه يا أستاذ.

شعرَ الأطفالُ بلذةٍ خفيةٍ للورطة التي وقع فيها زميلهم، وانتظروا تصاعداً أكبرَ للأحداثِ ما دامَت تتعلقُ بهِ هو وليس بهم هم.

أمسك الأستاذ محمود من أُذنهِ بقوةٍ بأطرافِ أصابعه الضخمة، آخذًا في لَفها دونَ شفقة حتى امتقعَ وجهُ محمود، واحتقنَ الدمع في عينيه من شدة الألم قائلًا بنبرةٍ ذليلة:

أنا آسف واللهِ أنا آسف، لم يكن في وسعي القيام بحَله، فأنا أترك المدرسةَ إلى العمل مباشرةً وأقضي جل وقتي فيهِ لأساعد أمي في النفقات.

أجابَ المُعلمُ بنبرةٍ ساخرةٍ متهكمةٍ، تاركًا أُذنهُ قبل أن تخرج في يده وهو يشعر بنشوةٍ لرؤيته يضطربُ ويودّع سكونه النفسي: هذه مهمة ابنها البِكر لا مهمة ولدٍ مثلك.

يطرق محمود وجهه نحو خشبة المقعد خَجلًا، متفاجأً من دخولهِ في تفصيل عائلي خاص.

يستأنف الأستاذ كلامه: لأنه منشغلٌ بتعاطي المخدرات، وأنت تدفع له حسابها عنوة، لماذا لا تقولُ ذلك؟ بل لعلك تتعاطاها معه، وإلا لماذا تحاول إخفاء هذا الأمر عن إدارة المدرسة وزملائك في الصف؟.

يتشنجُ وجه محمود ويذهلُ عن نفسهِ، بينما يتطلع الطلاب في وجوه بعضهم بخبثٍ من سماع خبر خطيرٍ كهذا، فيقول محمود: وكيف عرفت؟؟

فيستطردُ الأستاذ: هه! التقيتُ البارحةَ صدفةً بأستاذكَ في المدرسة التي كنت فيها قبل أن تنتقل إلى هنا، وأخبرني أنك طردتَ منها طرداً بسبب سمعةِ أسرتك السيئة.

أخذ محمود في البكاء ناشجاً من لعنة أخيه الكبير التي تلاحقه دون أن يكون له ذنب، فيقول للأستاذ متضرّعاً: لا تقل للمدير، أرجوك يا أستاذ فأنا أتردد إلى المدرسة من أجل أمي المريضة.

عندئذ يتوجه الأستاذ بحديثه إلى التلاميذ قائلا في قسوةٍ دون اكتراث بمحمود: اخرجوا جميعًا إلى غرفة المدير، وأخبروه أنكم ترفضون أن يشارك مخادع مثله غرفتكم الصفية، ويفعل الطلاب الذين كانوا يتحاشونه قبل ذلك لفقرهِ ذلك.


الفصل الثالث

من غُرفةِ تخميرِ اللبنِ الخانقة وعلى وقعِ صوت دويِ تدفقِ الغاز من الأسطوانات في الأنابيب ينظرُ محمود شاردَ الذهنِ منقبضَ النفس لطرده من المدرسة في حوضِ الحليب الكبير حاملًا في يده ميزان الحرارة، ويحدث نفسه في حيرة كبيرة: ترى ماذا سأقول لأمي؟. وكيف سيكون وقع الخبرِ في نفسها، وهي تملكِ قلبًا عليلًا!.

تُرى هل أخفي الحقيقة عنها، وأمُثّل أمامها الذهاب إلى المدرسة؟ خوفًا من أن ينالها أذى، والله سيغفر لي كذبتي لأنه يعرف صدق نيتي، أم ماذا أفعل يا ربي؟

ويطول شروده، وفجأةً يفتحُ المراقب الباب سريعاً ويدخل ليطمئن على سير العمل، فيعود محمود إلى وعيه ويرى أن الحليب يغلي، فيسرعُ ليطفأ جرار الغاز وقلبهُ يكاد ينفطر.

يقول المراقب وهو يضرب جبينه: فلتحل لعنة الله عليك، ماذا فعلتَ بالحليب، لقد أفسدته كله!!

يجيبه محمود وهو يولول ويستدرُ الأعطاف: لقد شردت أرجوك سامحني، والله أنني لا أعلم كيف شردت، وأقسم لك بأغلظ الأيمان أني لن أكررها أبداً بعد اليوم.

فيقرع المراقب قدمه بالأرض ويزمجر بغضب قائلًا: إذا أنا سامحتك فمن سيدفع لصاحب المتجر خسائره؟ أنتم والله أناسٌ لا تستحقون الشفقة.

ويمسكه من قميصه ويجرجره على أرض المعمل ويلقيهِ خارجه.


يجلس محمود على الرصيف في الشارع يبكي ويتضرّع إلى الله أن ينقذه وأمه وأخاه مما هم فيه، وبينما هو عائدٌ إلى بيته، يعترضهُ في الطريقِ أولاد الحي، فيثبتونهُ ويضربونه ويرفعون أصواتهم قائلين: أخرجوا من حيِّنا يا حثالات، فلقد لطختم سمعة حيِّنا بين الأحياء.


النهاية

يدخل محمود المنزل وهو في حالة يرثى لها فيجدُ أمهُ ملقاة على الأرض وقد أغرقت دماؤها الأرضية.. ويخرج أخوه رافع على حين غفلةٍ مكشراً عن أنيابه وجهه كوجه ميتٍ وفي يده سكين إذ يعاني من حالة حرجة من الإدمان للمخدر، فيقول محمود الذي صعق لرؤيته أمه، صارخًا:

ماذا فعلت بأمي؟ ماذا فعلت يا مجنون؟.. آه أمي حبيبتي.

فينقضُ عليهِ رافع ليخرسهُ، وبينما يحاول محمود تخليص نفسه منه تخترق السكين رقبته وتقطع مجرى التنفس، ولمّا رآى رافع ما ألحقه بهذه العائلة من كارثة جن جنونه وطعن نفسه بذات السكين، وخلّصهم ثلاثتهم ممّا كانوا فيه.