زواجٌ مُقَنّع

تبلغ إسراء من العمر ستة وثلاثين عاماً فيما لازالت تسكن مع والديها في أحد أحياء بيروت كونها ما زالت غير متزوجة، والغريب أن أحدا لم يتقدم لخطبتها ولو لمرّة دون مبرّر، مما جعلها حزينة طوال الوقت، وقد كانت إسراء هي ووالداها يعتمدون في مصدر دخلهم على أخيها المغترب في أوكرانيا الذي يرسل لهم مرتّباص شهرياص لا بأس به كلّ شهر.


عادةً ما تلتقي إسراء وصديقاتها بين الحين والآخر، واللواتي كنّ يصطحبن أطفالهن معهن باستمرار متذمرين من صعوبة التربية والزواج، وهي تنظر لهنّ نظرة تحسّر مُحدِّثةً نفسها بأن تلك المشاكل هي أكبر طموحها، فهن يعيشون في نعمة لا يقدّرنها، بينما كانت تسأل نفسها دوماً عن السبب وراء عدم زواجها إلى الآن، على الرغم من أنها لا تقلّ جمالاً عن باقي صديقاتها.

استيقظت إسراء في أحد الأيام على صوت والدتها تتحدث في الهاتف، وهي تقول: غداً الوقت مناسب لاستقبالكم.

سألت إسراء والدتها: مع من كنتِ تتحدثين؟

قالت لها الأم منشكحة: بشرة خير بشرة خير..إنّها عواطف جارتنا في حيّ المنشية، تخبرني بأنّ جارتها منال أخ يبحث عن عروس، وقد اتصلوا ليزورونا لأجلك يا فتاتي الجميلة.

لم تصدق إسراء ما سمعته حتى أنّ عيناها دمعتا من شدة الفرح، فهذه هي المرّة الأولى التي ستستقبل بها عريساً، فذهبت إلى غُرفتها على فورها وبدأت تجهّز ملابسها وتخطط لمظهرها ليوم غد، فيما بقيت تلك الليلة مستيقظة لم تستطع النوم من شدّة فرحها، وجاء اليوم الموعود، فبدأت الأم بتنظيف المنزل وتعطيره، أمّا إسراء فانشغلت بتجهيز نفسها استعداداً لرؤية الضيوف، وبعد ساعات طُرِق باب المنزل، فهمّت إسراء بفتح الباب، إلّا أن والدتها أوقفتها وقالت لها: لا يجوز لكِ استقبالهم، اذهبي إلى غرفتك وأنا سأفتح الباب، وأنت ستُحضِرين القهوة عندما أطلبك.


وبعد دقائق عشر دخلت إسراء لتضييف القهوة، ونظرت إلى العريس بلهفة فإذا هو رجلٌ سبعيني، أبيض الشعر، منحني الظهر بالكاد يستطيع التكلم، كتمت إسراء شهقتها وجلست معه وبدأت تسأله عن عمله وأحواله الماديّة، والصدمة تكاد تبدو على وجهها، انتهت الزيارة بعد ساعتين من مجالستهم، فدخلت إسراء إلى غرفتها وهي تبكي على حظّها التعيس، قبل ان تلحق بها والدتها التي بدأت بإقناعها للموافقة عليه، وهي في حالةٌ من الصدمة، إلاّ أنها طلبت منها إمهالها وقتاً للتفكير، وعند جلوسها سمعت والدتها تقول لأبيها أنه يجب على إسراء أن تتزوجه لتخفف عنّا عبء مصروفها، وبعد ساعات خرجت من غرفتها وقالت لهما أنها وافقت على الزواج منه.


بدأت أسراء بتحضيرات الزواج على مضض، ففرحة العروس لم تكن بادية على وجهها، ثم ذهبت للقاء صديقاتها لتدعوهم إلى حفل زفافها، لكنّ خوفها من استهزائهم بها لكبر سنّه جعلتها تكذب عليهم بأنها تعيش قصة حب معه منذ سنوات وأنها سعيدة جداً بزواجها منه، ففرحت لها صديقاتها أو تظاهرن بذلك، واتفقن على الحضور جميعاً.



تزوجت إسراء وبدأت حياتها الزوجية كما لم تتوقعها، فمنذُ صباح اليوم الأول بدأ حسّان بإهانتها وضربها دون مبرر، إضافةً إلى مطالبته لها برعايته وإعطائه دواءه باستمرار بالرغم من كل تلك الإهانات، واستمرت إسراء على تلك الحالة عدّة أشهر، وكلّما ذهبت لزيارة والديها أخبرتهما عمّا تقاسيه، إلاّ أنهُما كانا يدعوانها للتحلي بالصبر والبقاء معه، وفي ظُهر أحد الأيام بينما هي تعدُّ طعام الغداء تلقّت هاتفاً من أحد الأشخاص يُخبرها بأن زوجها قد تعرض لحادث سير نُقل على إثره إلى المستشفى، فارتدت ملابسها على عجلة، وذهبت مسرعة للمستشفى لتطمئن عن حالته، إلا أن الطبيب أخبرها بأنه قد تضرر كثيراً وأنّ حالته باتت تستدعي رعاية مضاعفة في المنزل، استسلمت المسكينة لما سمعته واعتبرت أن هذا هو قدرها، واضطر زوجها لترك عمله، وأصبحت تعتني به بشكل مضاعف، وحالتهما المادية تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ورغم حاجته لها بقي يعاملها بقلّة احترام، وإهانة كلما أُتيحت له الفرصة بذلك.


الحقيقة والخيال

حضّرت إسراء في أحد الأيام الطعام لزوجها، وعندما تَذَوّقه لم يُعجبه، وقام برميه تجاهها وتوبيخها، هنا وللحظة شعرت أن لا قيمة لحياتها معه، فما نفع حياة مليئة بالتعب النفسي والجسدي، ثم تمالكت نفسها وما لبثت إلا أن ذهبت للخلود إلى النوم وكأنها لم تنم لسنوات، إلاّ أنها فجأة قررت الذهاب لمنزل والديها لإخبارهما بأنها لن تستطيع التحمّل أكثر من ذلك، وما كان منهما إلّا أن أمراها أن تتركه وتعود للعيش معهما، صُدِمت إسراء من ردّة فعلهما مُستغربة من تغيير رأيهما بعد أن كانا يصرّان عليها للبقاء معه، تواصل الأب مع زوجها لإخباره بهذا القرار وبعد أسبوع تمّ الانفصال بشكلٍ سريع، وكل طرف منهما ذهب في حال سبيله، ولم تمر عدّة أشهر حتى تقدّم لإسراء ثريّ من خارج البلاد كان قد شاهدها في إحدى شوارع المدينة عند زيارته لها، وأصرّ على زواجه منها بعد إعجابه بأخلاقها، فكّرت إسراء قبل الإقبال على تلك الخطوة من جديد خاصة بعد فشل تجربتها الأولى، إلا أنها وافقت بعد ذلك وسافرت معه، وبدأت حياة سعيدة جداً فذلك الرجل كان يحبّها جداً، ويقدّرها، ويحترم مشاعرها ويعتني بها جيداً، فيما كانت تعيش في منزلٍ واسع ولديها سيارتها الخاصة، ومضت الأيام وكلّ شيء يسير على أكمل وجه وكأنه مسلسل هي إحدى أبطاله التي تعيش حياة الرفاهية والهناء، ممّا جعلها تشعُر وكأنّ ذلك تعويضٌ عمّا مرّت به سابقاً.

وفجأة! تسمع إسراء صوت صراخ يناديها، ويقول لها: هيّا انهضي أيتها البلهاء، قد حان موعد دوائي وأنت غارقة في نومك كفيل نائم على كومة قش، هيّا اذهبي وأعطِني إياه، أما زلتِ نائمة لهذا الوقت!

فتحت إسراء عينيها محملقة غير مصدقة ما تسمع!، نعم، لقد كان صوت زوجها، ذلك الرجل العجوز يوقظها بعكازه الخشبّي المهترئ ماثل أمامها لم يصبه أيّ شر!.