الفصل الأول: رحلة عبر الزمن

درس أشرف الطب في إحدى جامعات مدينته بعد أن أصرّ والداه على ذلك مُضحياً بشغفه تجاه الفن التشكيلي الذي كان حلمًا يراوده منذ الصغر، ليتجه للعمل في المستشفيات بين آلام المرضى وعنائهم.


في عام 1977 انتقل أشرف بعد أن بلغ الثلاثين من عمره إلى البرازيل لإكمال رحلته في دراسة الطب وممارسته له داخل أحد أهم مستشفيات المدينة، وأثناء ذلك تعرّف على فتاة تدعى ماريا تنحدر من ذات المدينة التي ترعرع بها، والتي كانت قد انتقلت للعيش في البرازيل مع عائلتها منذ الطفولة حتى شبّت ودرست الفن التشكيلي في إحدى جامعاتها، وفي ظل وجود تلك الصفات المشتركة بينهما جعله ذلك ينجذب نحوها، حتى استمرا في اللقاء لعدّة أشهر ليعرض عليها الزواج فيما بعد، فيما وافقت هي عليه وأقاما حفل زفاف في البرازيل بعد مباركة أهلها، وبعد مرور عدّة أشهر من زواجهما وانتهاء عقد عمله في المستشفى البرازيلي قرر العودة إلى مدينته الأصلية للاستقرار بها مع زوجته ماريا، وبالفعل عادا معاً إلى مدينته وتعاقد مع مستشفى صغير للعمل به.


وفي أحد الأيام وفور عودته من عمله فاجأ أشرف زوجته برحلة استجمام إلى البحر بعد أخذه إجازة من عمله لمدة يومين كونه ومنذ وصولهما إلى المدينة لم تسمح لهما الفرصة بالخروج سوياً، وعندما أخبرها بذلك فرحت كثيراً وبدأت بتجهيز متاعها، وخلال ذلك الوقت رنّ هاتف المنزل الأرضي فكانت ممرضة من المستشفى تطلبه للمجيء فوراً.


عندما همّ بالذهاب أوقفته ماريا وطلبت منه البقاء لقضاء إجازتهما التي اتفقا عليها، فرفض أشرف بدافع ضميره المهنيّ إلّا أنّ ماريا أصرّت على موقفها وهددته بتركها له إن هو لم يستجب لطلبها، كونها قد ملّت من حياته كطبيب وبقائه دوماً تحت الطلب، عندما سمع أشرف ذلك تردّد بداية لكنّه لم يملك إلّا أن يتّصل معتذراً للمشفى بظرف قاهر سيمنعه من القدوم، طالباً منهم الاتصال بطبيب آخر، وبعد انقضاء إجازة قصيرة قضاها أشرف بالتفكير وتأنيب الضمير، عاد إلى المشفى وسأل عن الحالة التي كانوا قد تواصلوا معه لأجلها، فأخبره أحد الأطبّاء: ممم، لقد كانت حالة حرجة تعرّض فيها أحد الشبّان لحادث سير واحتاج لعملية طارئة لاستئصال عظمة قد اخترقت الرئة، لكن ما لبث إلا وأن فارق الحياة ونحن نحاول التواصل مع طبيب آخر.


الفصل الثاني: حزن واكتئاب

خرج أشرف باكياً من المستشفى بعد سماعه ما سمع، وبقي مُعتكفاً في منزله مكتئباً مُحمّلاً نفسه ذنب وفاة الشاب، فيما كانت زوجته ماريا تحاول إخراجه من تلك الحالة التي أصابته مراراً وتكراراً، إلا أن محاولاتها باءت بالفشل وبقي هو على حاله هذا لعدّة أشهر وكأنّه ينتقم من نفسه، وفي أحد الأيام استيقظ من نومه ورأى بجانب سريره رسالة من زوجته ماريا تقول: لم أعد أحتمل العيش مع إنسان يعيش عقدة ذنب لم يرتكبها تاركاً الحياة تسير أمامه دون أن يستغلها، لذلك قررت العودة إلى البرازيل لإكمال شغفي ورحلتي مع الفن التشكيلي، فطموحي ينتظرني هناك، لا تتبعني، قرأ أشرف رسالته هذه فتفاقمت حالة الاكتئاب لديه وزادت وحدته أكثر.


لم يكن يعلم أشرف أنّ الاتصال الذي سيتلقاه ليلة رأس السنة سيغيّر حياته إلى الأبد، حيث رنّ جرس الهاتف الأرضي أثناء جلوسه وحيداً على الأريكة، وصمت لبرهة من الوقت وهو يستمع لكلام الطبيب الذي أخبره بأن نتائج التحليل التي أجراها منذ مدّة قد أظهرت إصابته بمرض عضال نادر يفتك بالعظام شيئاً فشيئاً، وفي تلك اللحظات بدأت القشعريرة تسير في جسده، فيما أصبح لون بشرته يحاكي الزعفران من صفرته، وسقطت السماعة من يده وهو يرى شريط حياته يمرّ أمامه، بما فيها من موقف موت الشاب قبل أعوام طويلة، أغمض أشرف عينيه يائساً لما حلّ به، لعلمه بأنه سيبدأ تلك الرحلة المريرة وحيداً، حتى بدأ في تلقي العلاج مُتجهاً أسبوعياً إلى المستشفى يصارع ألم الدواء والحقن.


الفصل الثالث: القتل الرحيم

بعد رحلة علاج استمرت لسنوات بدأت حالة أشرف الصحية تزداد سوءاً شيئاً فشيئاً حتى فتك المرض بجسده، وأصبح ألمه أقوى من أن يُحتمل إلى أن منعه من قيامه بأبسط الأنشطة اليومية وأودى به طريح الفراش بين أصوات أجهزة المستشفى. ولمّا لم يستطع أشرف احتمال هذا كلّه وحده نادى أحد الممرضين وأخبره عن رغبته في الموت، بل طلب منه أن يطبّق عليه سياسة الموت الرحيم، وتوسّل إليه لذلك، ولمّا سمع الممرض طلبه صمت لبرهة من الوقت، ثم أدار وجهه عنه وكأنه لم يسمع منه شيئاً، فيما بقي هو يصارع الألم ورائحة المشافي والمسكّنات التي لم تعد تجدي نفعاً.


في صباح اليوم التالي استقبلت المستشفى أحد الشبّان الجدد كممرّض متدرّب، وكان يُدعى مازن، والذي جاء من خارج البلاد للتدريب لمدة أسبوع في المستشفى، وعندما بدأ مازن بجولته الميدانية بين المرضى وصل لسرير أشرف وأعطاه دواءه، وعند استعداده للخروج من غرفته قام أشرف بإمساك يده وهو ينظر إليه بيأس، وبدأ يرجوه بأن يريحه من ذلك العذاب.

-ممم، ماذا تقصد بذلك؟

-لقد فتك المرض بي، ولم أعد أقوى على احتماله لذلك أريد أن أتخلص من حياتي بالموت الرحيم.

-شهق مازن ممّا سمعه مندهشاً من طلبه، ثم ابتسم ساخراً وقال له: ها! لا يمكنني فعل ذلك بالتأكيد.


بدأ أشرف بالإلحاح عليه محاولاً إثارة شفقته تجاهه، لكن مازن قابل ذلك بالرفض الشديد، ممّا جعل أشرف يعرض عليه ثروته مقابل تخليصه من ذلك العذاب، وحينما سمع مازن ذلك العرض المغري، وبعد تفكير عميق قرر الموافقة على طلبه مُقنعاً نفسه بأنّه جاء إلى هذا البلد لأسبوع فقط، سيقضيه ويعود إلى بلده الأصل ثريّاً، وفي صباح اليوم التالي اتصل أشرف بمحاميه وطلب منه عقد بيع بجميع ممتلكاته باسم مازن وإحضاره له في المستشفى، فيما أملى عليه ألّا يمنحها له إلّا بعد موته وعند حلول منتصف الليل جاء مازن إلى غرفة أشرف ووقف عند رأسه والعرق يتصبّب من جبينه ملتفتاً حوله، ثم مدّ يده المُرتعشة نحو كيس المغذّي وقام بإدخال حقنّة معيّنة به دون أن يراه أحد.


تنهّد أشرف في تلك اللحظة، وأغمض عينيه فيما بدأ الألم الذي أكل جسده يخف شيئاً فشيئاً، حتى توقّف أخيراً، ثم لفظ روحه ومات وحيداً، أمّا مازن فخرج مسرعاً فور انتهاء مناوبته إلى الفندق لتحضير حقيبته للعودة للبرازيل متناسياً السبب الثاني الذي جاء لأجله وهو البحث عن والده البيولوجي، وذلك بعد أن أخبرته والدته الفنانة التشكيلية قبل وفاتها بأن من عاش معه طوال سنين حياته لم يكن والده الحقيقي، وأن والده الحقيقي طبيب كانت قد تركته منذ أكثر من عشرين عامًا.