اليتيم

تزوجَ محمد وهو رجلٌ ريفيٌ ميسور الحال من ابنةِ عمهِ سميرة، تَقيّدًا بالعُرفِ الاجتماعيِ في بَلدتهم، وعاشا أولَ الأمرِ إلى جانبِ بعضهما تحت سقفِ الزوجيةِ، حياةً سعيدة مليئة بالأوقات البهيجة واللحظات الجميلة، لكن ما أن مرتِ الأسابيعُ وانطوتِ الشهور، حتى بدأَ السُمُ في التغلغلِ إلى أنساغِ حياتهم، فهم خلالَ ستةِ سنوات من زواجهما لم يستطيعا أن ينجبَا سوى طِفلةٍ واحدة صَماءَ لا تسمع، هي آمنة وتبلغ من العمر خمسَ سنوات، وقَد كَثُر على إثر ذلكَ الغمزُ واللمزُ في البلدة على محمد وزوجته لأنهما يفشلان في تطبيق قاعدة "إكثار الولد" وهما في ذروةِ شبابهما، ناهيكَ عن رغبتهما في ولدٍ يحملُ اسم أبيه ويكون عونًا لهما عند الكبر.


وفي ذاتِ ليلةٍ من الليالي الخريفيةِ قالت آمنة بعد أن وضعت طعامَ العشاء لزوجها، ليرفضُ الأخيرُ تناول ولو لُقمة واحدة منه، والهَمَّ قد علا سحنته:

-إن لم تأكل فستضعف! وقد تمرض.

-المرضُ والموتُ ليسا أسوأ ما في هذه الحياة.

قَطِبت سميرة وجهها، وقالت بِحنكةِ المرأةِ ودهائها: إن كان هم الولد هو ما يؤرقك ويقضّ عليك مضجعك، لماذا لا نزورُ دارَ رعايةِ الأيتام، ونبحثُ عن رضيعٍ للتبني؟

ابتسمُ محمد لشدةِ إعجابه بالفكرة، وقال لها بعد جلوسهِ أمام المائدة: أنتِ حاملٌ منذُ الآن.


بعدَ تسعةِ أشهر، يخرج من بيتهِ على أعين الجيرانِ والأقارب مصطحبًا زوجتهُ التي تَصرخُ بملء فمها قاصدينَ إحدى دور رعايةِ الأيتام، وبينما هما في سيارةِ الأجرة، تقول سميرة: أنا قَلقة، وأخشى أن يُفتضحَ أَمرُنا.

-لا تخشي من شيء، فالأمورُ تجري كما خططنا لها طوال هذه الشهور، هَا قد وصلنا.

توارى محمد وزوجته بعيدًا عن الطريق العامةِ وأعينِ المرأة، وأنزلا القماشَ الملفوفَ من على خصرها، وأمسكَ يدها وتوجَها نحوَ بوابة الدخول وقصدا الإدارة.

-مرحبًا سيدي، أنا وزوجتي نَودُ أن نتبنى طِفلًا رضيعًا، لرغبتنا في أن يكون عندنا ذكرٌ نراعاه ونحسن تربيته.

-يسرنا تحقيق رغبتكما، آملين أن ترعيا الطفل الذي ستأخذانه كما يملي الضمير اليقظ.


وبعد أن انتظرا طويلًا تَبينَ أنه ليس هناك سوى طفل واحد عمرهُ شهرا فقط، فاضطُرّا إلى أخذهِ دونَ أن يمتلكا رفاهيةَ الاختيار، وبعد عودتهما للبيت، أرضعته سميرة وهدهدهُ محمد فرحاً بوجودهِ، وعند هبوط الليل وضعاه في غرفةٍ واحدةٍ مع آمنة، على السريرِ الصغيرِ الذي اشتراه قبل شهر، وذهبا إلى النوم، وفي الظلامِ الذي يُغرقُ المكان، شاهدتِ آمنة ظِلًا أبيضَ شَفافًا يرتفعُ في الغرفة، فتجمدت رُعبا وأرادت أن تصرخ طلبًا للنجدة فلم تستطع لأنها صماء، ومع مطلع الفجر، استيقظت سميرة لتعودَ صغيرها الجديد حاملةً رضاعةَ الحليب وفوطةً جديدة، وما أن فتحت باب غُرفتهما حتى شُدِهت لرؤية صغيرتها آمنة متدليةً من رقبتها المشدودة بحبلٍ معلق في الثُريّا.


ركضت سميرة نحو صغيرتها، وقد انعقدَ لسانها بادئ الأمر ثم عادت إلى وعيها وأخذت تصرخ رُعبًا لهول المنظر الأليم، وما هي إلا ثوانٍ حتى استيقظ زَوجها على صوتها، وانطلق كالمخمور يستقصي الأمر، ولحظة وقوع بصرهِ على ابنته، أسرع يفك رقبتها الصغيرة الملفوفة بالحبلِ والخوف يكاد يشلّ أوصاله، إلّا أنّ غريزة الأبوّة هي ما يحرّكه،

انتزع محمد رقبتها من الحبل، وحملها إلى سريرها، عندئذٍ سقطت ورقة من جيبها، هرعت الأم لالتقاطها، وفتحتها وهي تبكي بكاءً مرًا، وقرأت: لا أُحِبكم، أغبياء.

فقالت للأب وهي تجهشُ ببكاءٍ هستيريٍ وتقول بحرقة: لم تكن موافقةً على فِعلتنا، لقد كرهتِ الحياةَ لاعتقادها أنها لم تعد طفلتنا المدللة كما كانت، آه يا رب العالمين كيفَ كنا طوال هذا الوقت نسعى لإرضاء الناس بينما نسينا ابنتنا حبيبتنا!.

ثم أردفت بلهجة شرسة: لم أعد أريده، ولتذهب سمعتك بين الناس إلى الجحيم، هذا الصباح نفسه، ستذهب إليهم لتسألهم إذا ما كانَ بالإمكانِ إرجاعه، فردَّ محمد وهو يغالبُ دموعه، هذا ما سيحصل.


انطلقَ محمد إلى دار الأيتام، ودخل إلى المدير وطلب منه إعادة اليتيم إلى الدار، فقال المدير مستفهمًا مندَهِشًا: أبهذهِ السُرعة، ولماذا عساكَ تقول ذلك؟ أم أنكَ علمتَ بالحادثة!

تساءل محمد: ماذا تعني؟ أيّ حادثة!

فقال المدير: خلالَ اليومين الأولين من قدوم هذا اليتيم، شكت المربيّة المسؤولة عن مراقبته من أنّها تسمع أصوات صراخ، وصرير أسنان غريب قادم من غرفته ليلاً، لكننا أقنعناها بأنّها مجرد تخيّلات،إلّا أنّها وفي اليوم الثالث انتحرت شَنقًا في ظروف غامضة، وقد عزوتُ الحادثتين -لكوني رجلَ علم- إلى السيكولوجيا، وبعدها أشارت علي كبيرة المربيات بأن ينام الولد بمفردهِ، فأمرتُ بذلك فقط لأضع حدًا لثرثراتهم، أمّا مساعدتي فقالت لي: هأهأهأ، يا لَغبائها لا بدّ أنّها استشارت جدّتها، فأخبرتها بأنهُ روحٌ سُفليةٌ شيطانية جاءت من زواج جنية بإِنسيّ، وأن الحلَ يكمنُ في قتلهِ، ولكم ضحكتُ عند سماعي هذهِ الخُرافة، همهم محمد مصفرّا من شدّة خوفه: يا حبيبي!.


انطلق محمد بمعيةِ المدير إلى منزلهِ لإيجادِ حلٍ لهذه المصيبة التي لا يصدقها عقلٌ، والتي شاء القدرُ أن تنزل عليه هو من بين ملايين البشر جميعًا، وعند وصولهم وجدوا دُخانًا كثيفًا يملأُ الأجواء بينما ألسنةُ اللهبِ تتصاعدُ من منزلهِ، نزل محمد من السيارة يصرخ كالمجنون، وما إن وصل حتى قالَ الطبيبُ لرجالِ الشُرطة، الزوجُ المأفون هو الجاني، فهو يعاني من ضلالاتٍ واستيهامات، ألقوا القبضَ عليه، فلقد أعدمَ ابنته الوحيدة وأحرقَ زوجتهُ وطِفلًا تبناه.

فصرخ محمّد ورجال الشرطة يقتادونه: بل هو اليتيم، إنّه جنّي ملعون، صدقوني، صدقوني.

ابتسم الطبيب ابتسامة ساخرة، وحدّث نَفسهُ بينما كانَ عائداً لسيارته: قال جنيٌ عابثٌ قال!.

نطقَ أحدُ رجالِ الإطفاء الذي كان على مقربةٍ منه: لم يمت الطفل بحمد الله، فقد لَحقناه قبل أن تقترب النار منه، وهو الآن ينعمُ بالدفءِ الأسريِ في البيت الملاصق لبيتهم.