العاقر

كان سيف تاجراً كبيراً ومعروفاً في مدينته، ولما أَلّمَ بهِ المرض فأقعدهُ عن العملِ وألزمهُ في منزلهِ فراشه، أخذَ يناجي زوجتهُ التي كانت تقربه ممسكة يده، قائلًا: آهٍ يا تُماضر، إن نياطَ قلبي يكاد ينقطع لشدةِ حسرتي على فقدِ الضنا! فلو أنّ لي ولداً، لاستلم تجارتي عوضاً عني في ظرفي العصيب هذا، آهٍ آه.

تنهدت تماضر وهي تمسح دمعةً أفلتت من عينها، وقالت بصوتٍ كَسير: ما يؤلمكَ يؤلمني، ولربما آلمني أنا أكثر منك، فأنا امرأة، وأي شيءٍ هي المرأةُ إن لم تكن أُمّاً!. وبخصوص تجارتك التي لا يجب أن تقف، فإنني لا أعلمُ لمَ لا تُنصّب عليها من ينوب عنك؟.

قلت لكِ مِراراً أنني لا أثقُ في أحدٍ على الإطلاق.


٢

مضت ثلاثةُ أيامٍ على هذا الحال، وهما يندبان حظهما، ويُقرّعان قدرهما، وبينما هما كذلكَ سَمعا قرعاً على الباب، فأشارَ سيفٌ منطرحَ الفراشِ لزوجتهِ أن تفتحه، ورَحب كلاهما بالضيفِ الغريبِ، وهما ينظران إلى بعضهما نظرةً متسائلة مستفهمة عن شخصِ الضيف وغرضه من الزيارة، ولما لاحظَ الزائرُ ما تسبّبَ بهِ من إرباكِ وقلق للزوجين قال: دَلّني أهلُ الخيرِ عليكَ، عندما سألتُهم عن تاجرٍ كبيرٍ ذي سمعةٍ محمودة في السوق، لكنني وجدتُ متجركَ مُغلقاً فسألتُ عن بيتكَ؛ لأنني كنت مُصراً على مقابلتكَ في هذا اليومِ.

سَعلَ سيف وابتلعَ ريقهُ، وقال بصوتٍ مبحوح: أهلًا وسهلًا بك في بيتي المتواضع.

وضع الضيف يدهُ على لحيتهِ السوداء ومسحها ثُمَ قال: أصحيحٌ ما سمعتهُ عن أنّ لا ولدَ لكَ؟ ألا ما أصعبَ أن لا يجد الرجل منا سَنداً له من صُلبه!.

-همممم، امتعض سيف وقال: قُدّرَ لزوجتي أن تكون عاقراً، وقد ارتضيتُ نصيبي من الحياةِ رغم كل شيء.

نَظرَ الضيفُ إلى تُماضر، ثم أرسل نظره إلى سيف وقال: يا رَجل، ألَن تقدّمَ لي ضيافتك؟.

فهم سيف مُراد الرجل وتَحرّجه من زوجته، فأعطاها أمراً بإعداد إبريقٍ من الشاي.

ولما غادرت الحُجرة نهضَ الضيفُ واقترب من فراشِ التاجرِ وقال: يشهدُ اللهَ أنني تعاطفتُ معكَ.

حدقَ سيفٌ في عينيهِ بدهشةٍ وقال: ثمّ ماذا؟.

ما رأيكَ لو أنجبتِ امرأتكَ توأماً من الذكور؟.

نزلَ السؤال على سيف كالماءِ البارد في جوفٍ ظَمِئ، فقالَ: كيفَ السبيلُ لذلك؟ ناشدتك الله!.

ابتسمَ الضيفُ ابتسامةً عريضةً كشفت معها أنيابهُ، وأردف: لكنَّ لي طَلباً عليكَ أن تتعهدَ بإجابته أولًا.

نطقَ سيفٌ بنزقٍ ساذج: أتعهد، وأقسمَ بشرفهِ.

حينئذٍ أخرجَ الضيفُ من جيبهِ ورقةً مطويةً ودَسّها في يدِ سيف، وهمسَ: ضعها تحتَ وسادةِ زوجتك، وإيّاك أن تفتحها.

دمدم سيف كما لو كانَ يُطمئنهُ في قضيةٍ خطيرة هي حياةٌ أو موت: سأفعلُ ما قلته بدقة وحذر.

ولما لمحَ امرأته تدلف الغرفةَ، أردف بصوت عالٍ: هُو ذَا الشاي يا ضيفي العزيز.

شرب الضيف الشاي، وخرج دون أن يُفصح عن مطلبه.


٣

استردََ سيف عافيتهُ وعادَ إلى نشاطاته التي اعتاد القيام بها، وطَبّقَ وصية الرجل كما يجب، وما إن انقضى شهراً واحداً، حتى ظهرت أعراضُ الحمل على زوجتهِ، فاستشارت طبيبةَ حَيِيها ظنًا منها أنها تعاني نزلةَ برد، فَلمّا بشرتها بالحمل خَرّت على المقعدِ فاقدةً وعيها من شدةِ الفرح، ولمّا عرفَ سيف الخبر استقدمَ خادمةً لتقوم برعياتها، وأخذَ يوُزعُ السُكر والأرز بالمجان على المحتاجين حتى وضعت امرأتهُ توأماً من الذكور سماهما: سعيد ومسعود.


٤

مرتِ السنينُ وكبر الولدان وصارا شابين يافعين يعينان والدهما في تجارته، وأصبح اعتمادُ سيفٍ عليهما في كل شاردة وواردة، وكان يُدللهما كثيراً حتى أنّه اشترى لكلّ واحدٍ منهما حصاناً أشهب بعدَ إلحاح أمهما المتواصل، وبينما هم منغمسون في حياتهم الهانئة السعيدة، ظهرَ ذات ليلة ذلك الرجل الغريب على البابِ، فدعاهُ سعيدٌ للدخول.

ولما رمقهُ سيف يدخل، تعرّفهُ ورَحبَ بمقدمه قائلًا بلهجةٍ عذبة شاكية: أنت لا أكاد أصدق! حتى أنني نسيتكُ أو قاربت، يا مرحباً بك يا رجل، أينَ اختفيتَ كُل هذه المدة؟ ثُم إنّك ما تزال شابًا مثلما كنت آنذاك؟.

كُنتُ غارقاً في أعمالي وشؤوني في بلادٍ بعيدة، دعنا من هذا كلّه فقد حانَ الآن وقتُ الوفاء بالعهد.

لكَ ما شئتَ من المالِ يا أخي، فأنا لستُ جاحداً حتى أُنكر فضلك عليّ، وكرمكَ معي.

أخذ الضيفُ شهيقاً عميقاً تَخلّصَ منهُ ببطء، وقال: أنا لا أريد مالاً، أنا أريدُ واحداً من أبنائك.

صعقُ سيفٌ عندما سماعه هذا من الضيف وتبدلت ملامحه، بالإضافةِ لزوجتهِ وولديه، وقال: ماذا قلت؟.

قلتُ أريدُ ولداً من أولادك.

-لكنّ هذا مستحيل، اطلب نصف ثروتي فذلك أهون علي!.

ولكنك تعهدتَ في لقائنا الأول بمنحي ما أطلبه؟.

ذلم أكن أظنُ أن. لا لا هذا غير ممكن أطلب شيئاً آخر.

هذا آخرُ ما لديك؟.

نعم، بدون تفكير فإنّ ما تطلبه مني غير معقول!.

فنهض الضيفُ وقال: أوصولوني إلى الباب، ورافقهُ سعيدٌ إلى الباب، وما إن خرج الشيخ من الباب حتى اختفى سعيد ولم يظهر بعد ذلك.


٥

عاد لسعيدٍ إداركه بعد أن دارت به الدنيا لثوان لم يدرِ ما حصل فيها، وفجأةً أَحسَ بنفسه في كهفٍ جَبلي مخيف، ولمّا هَمَ بالخروج محاولًا الهرب لقيهُ غول، فخاطبهُ بصوتهِ المتحشرج: إلى أينَ يا سعيد؟.

ارتعبَ سعيد لكنه حافظ على رباطة جأشه، وقال: ماذا تريد منّي؟

أُريدُ دماءكَ الفتية لأحافظ على شبابي وحيويتي.

صعق سعيد لما سمع، وأخذَ بالركضِ ليتخلص من هذا الكابوس، لكن الغول أدركه وأمسكهُ من رقبتهِ، وبينما هما يتعاركانِ تعثرا بجذع شجرة مرميٍّ على صفحة الأرض، فسقطا وتحسسَ سعيدٌ حجراً بيدهِ فأمسكه وظلّ يطرق به رأس الغول من الخلفِ حتى مات.

وهامَ على وجههِ في الغابةِ لا يدري ماذا يفعلُ في أمرهِ، وصارَ يحدثُ نفسه التي امتلأت ضيقًا وكَرباً: أين أنت يا أخي، وأنت يا أمي، وأنت يا أبي آهٍ لبؤسِ ما أنا فيه، ترى هل سيقيّضُ لي رؤيتكم من جديد؟.

وأثناءَ سيرهِ لاحَ لهُ في الأفق قصرٌ منيف، فنوى التوجه صوبه، عسى أن يجد لدى ساكنيهِ حلًا لِكربته.


طرق بابهُ فأَذِنَ لهُ صوتٌ نسائيٌ لطيفٌ بالدخول.

واستقبلته فتاتانِ غايةٍ في الجمال والرقة، قائلتان له في لطف: من أنت وماذا تريد؟.

ولمّا قصّ على مسمعيهما حكايتهُ، تعاطفتا معهُ وحثّتاه على الإقامة معهما في القصرِ ريثما يهتدي إلى حل.

وفي الصباح أرادَ سعيد الخروج للمشي في الغابة، فشاهدتهُ نهلة من الشُرفة، وصاحت: إلى أينَ يا سعيد؟.

-أشعرُ بالاختناق، وودتُ السير قليلًا في الغابة.

-هذا خطرٌ عَليك، فأنتَ لم تفتدي نفسكَ بدمِ حيوان، وللغول الذي قتلتهُ شقيقٌ في الغابة، قد ينالك منه أذى!.

-ما هذا الذي أسمعه؟.

-للغابةِ قوانينها.

حركَ سعيدٌ كتفيه وقال: فليكن ما يكن، سأذهب.

وانطلق دون أن يكترث بصيحات نهلة، وعندما أوغل في الغابةِ الموحشة أغرق الخوف نفسه، وشعر أنهُ ارتكبَ حماقةً إذ تعامى عن زجر نهلة له، فأدار ظهرهُ وقرر العودة، وبينما هو يسرع الخُطى نحو القصر سَمعَ ضحكةً شريرةً، وصوتاً يفحُ فحيحاً: يا قاتلَ أخي، يا قاتل أخي، يا قاتل أخي.

تجمدَ قلبُ سعيد رُعباً، فوقفَ لمعرفتهِ عدم جدوى هروبهِ، وقد حدّثَ نفسه: قد يغدر بي، عليَّ المواجهة.

أُخرج إليَّ أيها الغول!. تعال وواجهني.

استحالَ الغول فجأةً مادةً بجسد وروح أمامهُ، بعد أن كانَ روحاً فقط.

-أسمعُ دقاتِ قلبك السريعة، فهي تفضح خوفك واضطرابك رغم إجادتك تقمص دور الإنسانِ الجسور الذي لا يهاب شيئًا! هاهاهاها.

-أتريدُ القتال؟.

-لا، لستُ مغفلًا كأخي، سأطرح عليك سؤالاً وإن عجزت عن حلّهِ قيدتكَ لتموتَ تحت حر الشمس.

-موافق.

ولما سألهُ وعجزَ عن الإجابةِ، قيّدهُ تحت قرص الشمس ووضعَ على بطنهِ حجراً ورحل.


النهاية

خرجَ مسعود منذُ تلك الليلة يمتطي فرسهُ للبحثِ عن شقيقه وتوأمه، قائلًا لأمه وأبيه: لا تبكيا، لن أعود إلّا وهو معي.

-لا تخرج يا بني، لا نريد أن نفقدكما معاً، لكنّه خرج ضارباً بعرض الحائط توسلاتهما.

وبينما هو نائمٌ تحت ظل شجرة وقد نالَ منه التعب، وشارفَ على فقدان الأمل، ولمّا كانَ بينهما اتصالٌ روحي كما أي توأمين، فقد أتاه سعيدٌ في منامه دالًا إيّاهُ على مكانهِ قائلًا له: قاربتُ على الهلاك، أسرع.

فاستيقظ من نومهِ وجبينهُ يتصبّب عرقاً، وامتطى صهوةَ حصانهِ وهو يقول بصوت غاضب: أخي سعيد، أنا قادم لنجدتك.

ومضى حصانهُ يسابق الريح

استغرقَ مسعود ساعتينِ في الطريق قبل أن يصلَ أخيهِ ويحرره من قيدهِ ويرفع عن بطنهِ الحجرَ، وقد وضعَ في فمهِ عُشبةً ما أن أكلها في فمهِ وابتلعها حتى عادت إليه قوته وحيويتهُ، وصارا معاً قوةً عظيمةً؛ مكنتهما من قطعِ رأس الغول الذي كانَ مهراً لزواجهما من نهلة ونفحة الذي باركهُ سيف وتماضر بغبطةٍ وحُبور.