نُزهة

مساء يوم الخميس اتفقَ صبيةٌ ثلاثة وهم مالك، وسامر، ومحمود على أن يخرجوا مع بزوغ فجر الجمعة من حَيِيهم مغامرين في رحلةٍ عبرَ الغاباتِ والوديان، فقال محمود: ما رأيكم أن نَأخذُ معنا ماءً وشرابًا وشطائر؟.


فاختلف صديقيهِ معهُ قائلين: لا لا نريد.

-إذن ماذا تريدان؟.

-قال مالك: ما رأيكم أن نأخذ معنا لحمًا لِشَيّه على الحطب؟.

واختلف صديقيهِ معه هذه المرة أيضا فقال: كعادتنا لا نتّفق على شيء! ماذا نريدان إذًا!.

فقال سامر: الحَلُّ عندي يا رفاق، يأخذُ كل واحدٍ منا (نُقِّيفةً) ونخرجُ لصيدِ الطيورِ والأرانب البرية، ها ماذا قلتم؟.

ارتسمت على وجهيّ صديقيه أمارات الرضا، وقالا: ليسَ هذا سيئًا.

فنظر الثلاثة في وجوه بعضهم بحماسٍ، وقالوا معاً: اتفقنا.


٢

عندَ الغداةِ وقفَ مالك يتمطى تحت شجرة الكينا الكبيرةِ حيث أزمعوا أن ينطلقوا من هناك، حاملًا في يدهِ أداةَ الصيد البدائية وزجاجةَ ماء، واقفاً عاقداً يديهِ خلف ظهرهِ ينتظر وصول صديقيه، وراح يتأمل ريثما يصلا لحظةَ بزوغ أول قرصِ الشمس وهو يعتلي الأفق، فأعجبهُ منظرهُ كثيراً، ولاحَ لهُ على مبعدةِ ثلاثين خطوة سامر ومحمود، فقال لنفسه: أخيراً جئتما كدتُ أموت خوفاً وأنا وحيدٌ هنا، وصاحَ: أسرعوا يا رفاق، عندها أدركوه حاملينَ أغراضهم، قالوا: هيا ننطلق.

وقال مالك ضاحكًا وهم سائرون: فليكن صيدنا وفيراً. فضحك صديقيهِ معه، كأنهم جميعاً يعرفُونَ أن الصيدَ أصعب وأبعد منالًا عن فتيةٍ مثلهم.

قال محمود بزهو ضاحكاً: بالنسبةِ لي سأملأُ هذا الكيسَ الذي في جَيبي حماماً برياً، وأرانبَ برية أمّا طيور الدُوري فسأتركها لكم.

رد سامر عليه بنبرةٍ ساخرة: هأ هأ هأ هأ يا لكَ من مغرور! على أيةِ حال، يقولُ المثل: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، سنراكَ الآن في الغابة.

قال مالك: أظن أننا سنضككُ كثيراً في الميدان هأ هأ هأ.

وصلَ الفتيةُ حافةَ الجبل وبدأوا يهبطونهُ باتجاهِ الوادي، فقال سامر بنبرةٍ جادة: علينا أن نحاذر ونحنُ نهبطُ هذه الصخور الصقيلة كيلا ننزلق.

يردف مالك مؤكداً: هذا صحيح، لطالما زلّت أقدامٌ هنا وارتطمت رؤوس.

قالَ محمود متعالياً: يا لكم من حمقى، هذا في الشتاء فقط أما في الصيف فلا حاجة لهذه النشرات التحذيرية هأ هأ هأ أنتم تحفظونَ من دون إعمالٍ لملكةِ الفهم.

ويرد سامر بضيقٍ عليه: عاد إلى غرورهِ من جديد!.

وينتبهُ محمود عند سفحِ الجبل إلى عصفورٍ يقفُ على الأرض بعيداً عنه، فيقول بنزق: توقفوا عندكم، قلتُ توقفوا.

سامر: ماذا هناك؟.

ثمةَ عصفور هناك. يقول محمود ذلك ويشير بأصابعهِ نحوهُ بينما يجهزُ حجراً صغيراً ويلقمه للنقيفة.

مالك: ههه أرنا مهاراتك يا قَوّال!. يقرفص محمود ويصوّبُ نحو الطائر ويتهيأ للإطلاق، وفجأةً هُب ينطلق الحجرعلى مقربةٍ من الطائر فيفرُ بجناحيهِ هارباً.

وينطلق صديقيه ضاحكين متهكمين عليه: هأ هأ هأ هأ قلنا أنكَ لستَ إلا ثرثاراً.

ويضيفُ مالك ضاحكاً: سيقولُ لنا الآن أن قلبهُ رقَ للطائر عند آخر لحظة قبيل الإطلاق هأ هأ هأ هأ.

يحمرُ وجهُ محمود ويقول: هي هي هي ألن تكفوا عن السخريةِ مني آخر الأمر؟ على كلٍ المحاولةُ الأولى من كل شيء دائماً لا تكونُ مُرضِيةً.


٣

هبط الفتية أخيراً الجبل وصاروا على أرضٍ مستويةٍ بين جبلين، فقال محمود: ها نحن ذا يا رفاق في الوادي الآن هناك يقعُ نبعُ الماء المعروف، وما علينا الآن إلا الجلوس وانتظار الطيور العطشى مختبئين خلفَ جذوع الأشجار.

فيرد سامر مستفهماً: ومتى إن شاء الله سوف تعطش الطيور؟.

مالك: ألا تعلم؟.

سامر في حرجٍ: لا!.

فيرد مالك ساخراً: تعطش عندما تعطش هأ هأ هأ هأ.

ويضحكُ محمود ومعه سامر.

يستأنف مالك كلامه من جديد قائلًا: لماذا لا نلتقطُ حبات العنب من تلكم الأغصان لنتلذذ بحلاوتها في أفواهنا ريثما تجيء الطيورُ لتشرب!.

تُعجب سامر الفكرة ويقول: هيّا بنا.

ويمضي ثلاثتهم نحو أغصان الكرمة.


يضع محمود في فمهِ حبةَ عنبٍ ويسحقها بين فكيه ويروح يتأمل الجبل الآخر بينما يتلذذ بحلاوة العنب، ويقولُ: يا رفاق لقد جاءتني فكرة.

يقول مالك بعدم اهتمام وهو يقضم حبات العنب بنهم: هممم هذا جيد.

يضحك سامر من تفاعل مالك مع كلام محمود ويقول ضاحكاً: هأ هأ هأ ما هي فكرتكَ يا أبو الأفكار؟.

يُشير محمود بأصبعه نحو الجبل ويقول: ما رأيكم أن نتسلق هذا الجبل أمامنا؟.

يكتسي وجه سامر تعبيرٌ مؤلم ويقول: ماذا تقول؟ ألا ترى طبيعتهُ الخطرة! ثم أنني لم أسمع أن أحدًا تسلقهُ من قبل؟.

فيجيب محمود صديقه بنبرةٍ حماسية: لهذا أودُ تسلقهُ، أعترفُ أن من الصعوبةِ بمكانٍ تسلقهُ هذا صحيح يا صديقي، لكن لماذا لا نتحدى أنفسنا؟ ألم نخرج في رحلة، لتكن رحلتنا رحلة مغامرة!.

يبتلعُ مالك حبات العنب التي كانت تملأ فمهُ ويقول ساخراً من جديد: أمتأكدٌ أنت من أنها ستكون رحلة مغامرة، وليست على سبيل المثال لا الحصر رحلة رُعب! هأ هأ هأ هأ.

يضحك محمود ويقول بنبرة مُحفّزة: كفى يا أصدقائي سخريةً، ألم نألف مناظر هذا الوادي ونملّهُ! لمَ لا نجرب رؤيةَ مناظر جديدة! ثم إنني متأكد من أن الصيد سيكونُ وفيراً في هذا الجبل، وقد نجدُ فيه دجاجاً برياً أيضاً!.

يفتحُ سامر عينيه على اتساعهما ويقول موافقاً صديقه: أنت على حق، ثم إنّ الدجاج يسهلُ صيدهُ أكثر من الطيور.

يقول مالك: إذن هَلموا بنا يا رفاق.


٤

أخذ الرفاق يتسلّقون الصخور شديدةَ الانحدار بتأنٍ وحذرٍ شديدين، وعندما صعدوا رُبعهُ وجدوا أرضًا منبسطةً، فقال محمود وهو يلهث: أخيراً عثرنا على مكان للجلوس والتقاط الأنفاس أوف!.

يرد مالك عليهِ بحنقٍ: ألا ما أغبانا إذ سرنا خلفك كقطيعٍ من الأغنام آه قلبي يكاد أن يحطم أضلاعي من اضطرابه!.

أمّا سامر آخر الواصلين فألقى نفسه فوق الصخرةِ وراح يلعنُ محمود وأردف: لم أعد أريد دجاجاً برياً، ممّ تشكو العصافير؟.

وأثار استغرابهُ ودهشته أن الصخرةَ الممتدة التي ألقى نفسه فوقها قد اهتزت رغم أن مظهرها يدل على صلابتها وثباتها، لكنهُ لم يلقِ للأمر بالًا وأخذَ يسند رأسه على ركبتيه بينما يداعب الصخرةَ بيدهِ، ويمسحُ عنها البحصَ والأوراق والأتربة، وعندما كان يفعل ذلك لاحظ أن أصابعهُ تلمسُ شيئًا نافراً فانتبه إلى ذلك وأرسل بصره إليه وراحَ ينظف باهتمام كبير بكلتا يديهِ هذا الشيء الذي جذب انتباهه، وفجأةً ظهرَ لهُ نقشاً لم يفهمهُ، فأسرعَ ينادي صديقيه: محمود مالك تعاليا حالًا هيا أسرعا! فقالا وقد هَبّا إليه: ماذا عندك، ماذا هناك؟

-انظرا لهذا!.

فقربا رأسيهما، لكن محمود زاحمهما على رؤيته فأبعد أيديهما عنه وراح يتملسهُ وقال: هذا كاهنٌ وهذه العصا التي في يده صولجان! فقال مالك: هل هناك كنزٌ هُنا!.

قالَ محمود بحماسةٍ: فلننظف هذه الصخرة أولا من التراب والحجارة لتتضح لنا الرؤية، وأخذوا ينظفونها بنزقٍ وجدٍ وحماسةٍ كبيرة، وعندما انتهوا لاحظوا شقًا مستطيلًا فيها، فقال محمود: إنهُ يشبهُ القبر ألا تلاحظون ذلك؟، فقالوا: نعم يشبهُ القبر تماماً!.

وقربَ مالك زجاجةَ الماء وسكبَ منها فوق نقش الكاهن وصار يحرك يدهُ عليهِ لتتضح تفاصيله أكثر، فما كان أشد رُعبهم وفزعهم وارتياعهم جميعاً عندما أخذ الغطاءُ الحجري على حين غرة بالتكسّرُ من تلقاءِ نفسه بينما تنبعث من تحته أصواتٌ بلغةٍ غريبةٍ عليهم هي لغة حضارة قديمة، فحملهم هذا الذعر على الهربِ قفزًا من فوق المنحدر الصخري الخطرِ وهم يصيحونَ فهَووا من سطحهِ وارتطمت أجسادهم بالصخور وظلت تنقلب وتزحف فوق الصخور التي تلونت بدمائهم حتى خَرّوا صرّعا عند بدايةِ الجبل.


ولما انتشرت قصتهم بين الناس شاعَ في المنطقة أن الجانَّ تتخذ من هذا الجبل مسكنًا لها، وأنّها تقدّم الصبية قرابين، ولا زال الناس يحيكون القصص حول ذلك الجبل حتى اليوم، ولا زال الكنز المحروس دفيناً في مكانه.


تمت