المظلومة

استيقظَ أهالي بلدةِ المرهوبة القَصية بعد منتصف الفجر على عويلِ وصريخِ شابٍ يبدو أنه يسامُ سوء العذاب، ولمّا هَرعَ رجال البلدةِ وفتيانها من مخادعهم ومساكنهم ومتاجرهم ليتعرفوا ماهيةَ الضحيةِ الجديدةِ هذه المرة وجدوا رأسًا مقطوعًا مفقوء العينين، مبتورَ الأُذنينِ لسانهُ متدلٍ من ثغرهِ، والدم يقطرُ منهُ إلى الأرض، وغير بعيدٍ عنهُ شاهدوا أوصالًا متقطعة وأطرافًا مُتَهَتِكة وما هي إلا لحظات يسيرة حتى تعالت ولولات النساء، وتأوهات الرجال حتى عَمّت كافة أرجاء بالقرية.


ماذا بعد

انكفأَ أعضاءُ هيئةِ المخترةِ عائدين إلى مجلسِ المخترة ووجوههم كالحةٌ ممتقعةٌ من هول الحادثة بعد أن أمروا بِدفنِ أجزاءِ المجني عليهِ بمقبرةِ القرية.

أخذَ كلٌ مكانهُ في المجلس وراح الحاج إسماعيل يقول: ضحية جديدةٍ أُخرى من ضحايا هذهِ المرأة المجهولة، فما عسانا فاعلين؟.

فرد المختار بصوتٍ موتور: لقد أغلقنا كافة الطرق المؤدية للبحيرة، ورغم ذلك يغامر هؤلاء الشبان الطائشون بحياتهم من أجل الفوز بوصلها، مع أنهم لا يظفرون حتى بلمسِ أُصبعٍ واحد من أصابعها، وكل من خرج منهم في طلبها يُجهَزُ عليهِ على الفور!.

تبرمُ نائب المختار وقال وقلبه يُعتصر ألماً: ينبغي أن نصل لحلٍ جذري لهذه الطامة! وإلى أن نهتدي إليه علينا ضربُ سياجٍ حولها ووضع لافتات تحذر من الاقتراب منها ليلًا، كما أرى أنه يتحتّم علينا عقدُ ورشات توعوية وإرشادية للأهالي، وبخاصةٍ الشباب لأنَ ضحاياها جميعًا منهم!.


يتوقف مسلسلُ الجرائم البشعةِ قليلاً ويخيم السكون على القرية من جديد بالرغم من أن بعضَ الأهالي الذين يسكنون بالقرب من البحيرةِ يشتكونَ من سماعِ ضحكاتها الصهباء، ونداءاتها الغنّاءِ في الليالي المقمرة.

ولمّا سمعها أحمد ووقعت من قلبهِ موقعها قالَ لصديقه: سأذهب إليها بأي ثمن وإن كان حياتي.

فتملأُ الدهشةَ نفس صديقه محمد ويقول: دعكَ منها، أَلم يقل الحكيمُ أنها عطشى للدماء، وأنها ستمل إن نحنُ أهلمناها فترحل عن قريتنا!.

ويتابع: أأنتُ غبيٌ إلى هذا الحد! رباه إنه يتأثرُ بِشراكها السمعيةِ ليقعَ فيه! رغم معرفتهِ العواقب!.

ابتسمَ أحمد وقال لصاحبه بهدوء الواثق: كيفَ لمن يملك صوتًا ملائكيًا كهذا أن يُقدم على القتل أعني أن يقتلَ دون سبب؟ لا بد من سبب يا أخي، لقد أخذت قراري سوف أذهب إليها هذه الليلة، خاصةً وأن البدرَ سيزيّنُ صفحتي السماء والأرض.

فتتبدل سحنةُ محمد ويقول ضارعًا: لا تفعل ذلك أرجوك، فعواقب ذلك وخيمة، أُقسم لك.

وما قيمةُ الحياةِ إن لم نسعَ وراءَ ما لا نفهمه! انتهى لقد عزمت أمري.


عند منتصف الليل يرافقُ محمد صديقهُ أحمد سائرين تحت ضياء القمر باتجاه البركةِ، وعندما صارا على مقربةٍ منها قال أحمد: ما لكَ توقفت؟ هيا نكمل طريقنا!.

أخرج محمد سيجارةً وأشعلها ولمّا سحبَ إلى صدرهِ دخانها، زفرهُ بعيدًا وقال: أنا أُحب الحياةَ يا صديقي ولا أريدِ لأنفي أن يكفَ عن استنشاق الهواء.

قال ذلك وانتوى الأوبةَ إلى بيته، وفجأةً تناهى صوت أنثويٌ ناعمٌ إلى مسامعهما، فقال أحمد: ألا تسمع، تعال؟.

أشفق على نفسك يا رجل وارأف لحال أمك، إنها ستقتلك لا محال!.

كلا إنها تدعوني باسمي أتسمع، إنها تريدني أنا، لعلي أكون صاحب حظوةٍ لديها، لا يمكن أن أصدق أن هذا الصوت اللطيف الساحر يمكن أن يكون لقاتل.

وأخذ الصوت يناديهِ باسمه مرةً أخرى:

"أسرع إليَّ يا أحمد إنني في شوق إليك".

عندئذٍ يهرولُ أخذ أحمد إليها وقد أعمتهُ سُحبُ غفلته تاركًا صديقه محمد الذي اعتقد أنه برجوعهِ سيمنعه من المقامرةِ بحياته، فيناديهِ الأخير وقد أفزعه رؤيتهُ يغيب بين الأشجار لكن نداءته ذهبت أدراجَ الرياح.

ويعود محمد إلى بيته ويطرح نفسهُ فوق سريره ويتلفع بغطائه ويدورُ في ذهنهِ شريطُ صور مخيفةٍ عن أحمد.


في الصباح الباكر يفتح محمد عينيه على وقع قرعٍ على الباب، فيخرج مبهوتًا مذعوراً لفتحه وصورة أحمد قد عاودت الظهور في ذهنه مجدداً، ومن خلف الباب ظهرت أم أحمد وسألتهُ: مرحبًا يا محمد ألم يخبرك ولدي أين مكانه؟ فلقد خرج البارحة ليتمشى معك.

فأجابَ محمد بوجلٍ وحزن: لا يا خاله، على أية حال عودي إلى منزلك وسأخرج أنا للبحث عنه.

وعندما أدار ظهره لها، قالت أم أحمد واجفةً: أخشى أنه ذهب للبحيرة!.

فيقول محمد دون أن يدير ظهره إليها: لا أعلم.

فيتردد نشيجٌ في صدرها ثم تعاود منزلها.


يدلفُ محمد غرفته وهو يتميّز من الغيظ ويضرب الحائط بقبضته ويقول: حذرتهُ مراراً لكنهُ آثر صوت الحيوان بداخلهِ على صوتي! أوف ماذا أفعل الآن؟

هممم أمثل خيار هو أن أخبر المختار.


النهاية

خرج محمد من داره راكضاً عبر الطريق الترابية حتى وصل ديوان المخترة، ولمّا دخله ألقى التحيةَ وقال: يا مختار.. أظنّ اليوم دورُ صديقي فلقد سقط فريسةً لغوايةِ تِلكَ المَلعونة!.

ولكن أما آن الأوان لأن تخبرني وتخبر الناس عن سرّ هذه البحيرة المسكونة، إذ يُشاع بين الأهالي أنك تعرف قصتها لكنك ترفض البوح بها!.

يُقطبُ مختار القرية ويحملق بالأرض.

فيُلحُّ محمد بالسؤال قائلًا: أخبرنا ما سرّ هذه البحيرة الملعونة نريد أن نعرف؟ أليس لنا الحق في أن نعرف؟.

يظلُ المختار لائذاً بالصمت.

يقول محمد من جديد: أخبرني أرجوك، لقد فقدتُ اليوم أعزَ أصدقائي إلى قلبي، وبالأمس وقبله والذي سبقه فقد أهالي القرية عدداً كبيراً من خيرة الشبان!.

يكزُّ المختار على أسنانهِ ويقفُ ويديرُ ظهرهُ إلى محمد بينما ينظرُ من الزجاج إلى بُستانِ المشمش، ويقول على مهل: لا بدّ أخيراً من أن أرفع هذا الحمل الثقيل عن أكتافي فلقد ضقتُ بحمله! لا بد من أن أُبرِأَ ذمتي!.

أصغِ إلي يا أحمد قبل سنتين قتلتُ ابنتي بيديَّ هاتين ظُلما على شاطئ هذه البحيرة.

هنا تنتاب محمد صدمة كبيرة من كلام المختار، وراح يسألهُ في دهشة قائلًا: من التي قُتلت؟؟ وكيف كيفَ قتلتها ولماذا؟ ألم تُخبرنا حينئذ أنها ذهبت للعيشِ عند خالتها في بلادٍ بعيدة!.

"آهٍ يا بنتي العزيزة لقد كنتِ أجمل فتاةٍ في هذهِ القرية" قال ذلك وهو ينتحب، وأردف بصوت متهدج: كنتث فس سفر لقضاء حاجة وقد طالت بي الغيبة، ولما عدتُ في يومٍ من الأيام استقبلتني ابنتي وقد انتفخ بطنها بشكلٍ ملحوظ، حتى ظننتُ منهُ أنها حبلى، فجنّ جنوني، وثارت ثائرتي، ولم أدرِ عن نفسي إلّا وقد أجهزتُ عليها، فلم يكن منّي إلّا أن حملتها في ليلة مقمرة ورميتها في مياه البحيرة وسط عويل أمّها وأختيها، وعاودتُ المنزل مثقل النفس مهموماً، وما زالت النساء على حالهنّ يبكين بكاءً مُراً ويضربنَ خدودهنّ بأيديهن وهنَّ يُرددنَ: لقد ظلمتها لم تكن حُبلى، لقد قتلتها بِذنبٍ لم تقترفهُ يداها، لقد كانت شريفةً عفيفة، ليس هذا حملاً وإنما مَرضاً كانَ يُرجى شِفاؤه، وعندما نطقَ المختار آخر كلمةٍ خرَّ على الأرضِ واقعاً، ولما اقتربَ محمد منه وجسَّ نبضه وتفحص تنفسه قال يحدث نفسه: لا أدري أماتَ حسرة أم أغشي عليه.