العروس
بينما أنا جالسٌ في إحدى صالات الانتظار التي تغصُ بالمراجعين في المشفى أخذتُ أنصتُ للسيدةِ التي كانت تجلسُ قُبالتي من قبيل تمضية الوقت إذ راق لي حديثها، وبعد أن سألتها جارتها في المقعد عن سبب مجيئها إلى هُنا، قالت: أتيتُ في مراجعةٍ لعيادةِ النفسية.
حملقت السيدةُ الأربعينية فيها، وقالت: أوف! خيرٌ إن شاء الله؟.
ألا ما أثقلَ الكلامَ عليَّ خاصةً عندما أتحدثُ فيه عن أوجاعي وآلامي، وما أثقلَ الألم عندما يكون من أشباحٍ خفيةٍ وأرواحٍ لا تُرى بالعين المجردة، ولكنها في ذات الوقت قادرةٌ على أن تُدمر حياة الإنسان وتحرمهُ من السعادة إلى نهاية حياته، وقصتي يا مدام تتلخص في ثلاث كلمات السِحر، والغيرة، والحِقد، إذ كان لها الكلمة العليا في انتزاع فرحتي وإضاعة حب عمري.
أضافت عواطف: أبلغُ الخامسة والعشرين من عمري، تفتّح قلبي في الثامنة عشر على حب ابن خالتي الذي يكبرني بخمسة أعوام، ووجدت فيه فارس أحلامي فهو طيب القلب، رفيع الأخلاق، ونبيل الطباع يتمتّع بشخصية حانية رقيقة المشاعر، ومنذ اللحظات الأولى عقدنا النيةَ على الزواج الشرعي، تسببت ظروف والدي المادِيةِ في حِرماني من استكمال تعليمي واكتفيتُ بالحصولِ على درجة الدبلوم في التجارة ونزلت بعدها للعمل في مصنعٍ لتجهيزِ الملابس تعلمتُ من خلالهِ مهنةَ الحياكة، أما ابنُ خالتي أيمن قد حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من كلية الآداب، وبعد انتهائه من الدراسة أُجبرَ على الالتحاق بالخدمةِ العسكرية الأمر الذي صعّب من إتمام الخطبة بعد تخرجه في الجامعة.
وتتابع عواطف: كانت والدتي تعلمُ بتفاصيل قصة الحب التي جمعت بين قلبينا، ورغم محاولاتي للحفاظ على سريةِ علاقتنا خوفاً من والدي لحين إتمام الخِطبة، إلا أن مشاعر الحب إذا استحكمت من الإنسان أصبح إخفاؤها أمراً صعباً جداً، ولذلك فقد عرفت عمتي وبناتها الثلاثة بهذه العلاقةِ البريئة أيضاً؛ نظرًا لأننا نقطن جميعاً في عمارةٍ واحدة، ومنذ ذلك الوقت بدأت المناوشات في كل مرة يحضر نجل خالتي لزيارتنا، وكانت زيارتهُ تجعلني أسمعُ دائماً من أفواههنَ كلماتِ جارحة أزعم أن سببها الحسد؛ لأنهن كبيرات في السن وقد تأخّر زواجهن إلى الآن، ولكنني لم أعطِ للأمر أي أهمية.
تكمل عواطف: مرّ عام التجنيد على خير وعاد وتوطّدت علاقتنا أكثر مما سبق، وبعد أن احترفت الحياكة قررت بفضل مساعدته فتح متجر صغير لتفصيل الملابس للفتيات والسيدات لمساعدته في شراء احتياجات الزواج، في الوقت الذي التحق فيه أيمن كأستاذ في إحدى المدارس إلى جانب عمله كمدرسٍ خصوصي، وهذا السعي الدؤوب من كلينا جعلنا نستطيع استئجار شقةٍ جديدةٍ وتجهيزها بالقرب من منزلي ومتجري للخياطة.
تضيف: وخلال فترة الخطوبة نشبت بيننا الكثير من المشاكل بسبب محاولات عمتي التدخل في حياتنا الشخصية وذلك بتحريضِ والدي لإلزام أيمن على دفع نفقاتٍ أكبر من استطاعته بدعوى أن الرجل الجيد لا يُعجزهُ تأمين هذه الحاجيات والمتطلبات خلال فترةِ الخطبة، ولكن الحب بيني وبينهُ كان أقوى، وأكبر، وأعمقَ مما تتخيلهُ عمتي لذلك تغلبنا على كافة المشاكل وطويناها معاً رغم العراقيل في هذه المرحلة.
تكمل: وبعد عامٍ من الخطبة تم تجهيز الشقة بأجمل الأثاث وأصبحت كما كنتُ أتخيلها بل وأكثر ما تخيلت، وكعادة الأسر البسيطة يتشارك الأقارب والأصدقاء في تجهيز وترتيب ملابس العروس، وبالطبع كانت عمتي وبناتها معنا في كل خطوة، إلى أن تمّ الزفاف في حَفل جميل ومهيب ارتديت فيهِ الفستان الأبيض الذي حُلمت بارتدائهِ مذ كنت طفلةً تتابع أفلام ديزني، وككل البنات فغمرتني فرحةٌ عظيمة يصعب وصفها بالكلمات خاصة وأن زفافي كان إلى رجلٍ أعشقُ تفاصيله وأحلم بمجيء الساعة التي تجمعنا سويا في بيت واحد، فأنهلُ من حبه وحنانه وأتذوق معه معنى العشق وميزة التقاء روحين معاً، لكنني تفاجَأتُ خلال الساعات الأولى المشتهاة أن الرياح جاءت بما لا يشتهيه شراعي، فمنذ اللحظة الأولى التي جمعنا فيها سقفٌ واحد لم أطق لمسه أو النظر في وجهه، بل وباتت رائحتهُ نتنة لا تطاق بالنسبة لي بشكل نهائي ولم أستطع حتى مجرد الاقتراب منه رغم أنني حاولت كثيرًا ولكن رائحتهُ بلغت من النتانةِ والقبح ما منعني من الاقتراب منه.
وتستطرد الضحيةُ فتقول: تحدثت معه بشأن هذه الرائحة الكريهة التي تنبعث منه الأمر الذي أثار استغرابه واستهجانه في آن معاً، وأنكر ذلك، وبرغم كل شيء ابتلع الإهانة التي تسببت له بها ونزل تحتَ رغبتي وذهب للاغتسال وعندما انتهى منه وضع كثيراً من العطرِ على ثيابه وجسده، وكانت المفاجأة عندما اقترب مني فوجدتُ أن الرائحة ما تزال على حالها بل وما تنفك تشتد أكثر وأكثر، فكتمت أنفاسي من قُبحها، وكان كلما حاول الاقتراب مني أبدأُ بالصراخ من بشاعتها، وليت الأمرَ وقفَ هنا، لا بل ازداد سوءًا فكنتُ كُلما دخلتُ الخلاء للاستحمام ينقلبُ الماء المتدفق من الصنبور أمام بصري دماً، وازداد الوضع سوءاً برؤية أشباحٍ تتحدث معي، وتتشكّل في هيئات عدّة، أمّا زوجي المسكين فكان كلما اقترب مني أشعرُ بقوةٍ خفيةٍ تُكبلني، وفي بعضِ الأحايين تنهال عليّ بالضرب، واستمر الوضع على ما هو عليهِ مدة شهر بأكمله أو أَزيد قاسيتُ خلالها الأمرّين، وكابدت ما لا يُحتمل، وكنتُ لا أستطيع النوم بجوارهِ أبداً ولا بالشقة على وجه العموم رُغم الجهود التي أبذلها في تنظيفها ورغم البخور الذي كنت أشعله وكلٌّ على غير فائدة!.
النهاية
مر شهرٌ ونصف الشهر على حالي المنكودِ هذا، وبعد رحلةٍ طويلةٍ بدأها زوجي عند الأطباءِ بين كشفٍ وفحص تبينَ بعدها أنهُ سليمٌ معافىً من كل مرضٍ وسقم وبعد عيادةِ كثيرٍ من المشايخِ وأصحاب الكرامات على أمل الوقوع على حلٍ لمشكلتنا الكبيرة باءت جميعها بفشل ذريع، فخلصتُ إلى أنني بعدَ هذا العذاب أريد الانفصال عن زوجي الذي لم يبقِ من حبهِ في قلبي ذرّة!.
وحلّ الطلاق بالفعل، لكنّ ذلك لم يحلّ ضيقي ولا كدري أبداً، وبينما أنا في منزل أبي سمعتُ أن إحدى بنات عمتي وقد ألمَّ بها مرضٌ خطير بعد الانفصال بوقت يسير، توفيت على إثرهِ، وبعد أسبوع من الحادثة جاءت عمتي إليَّ تولولُ وتندبُ حظها طالبةً مني الصفحَ والمغفرة، ولمّا سألتها عن السبب قالت لي باكيةً ناشجة: أتذكرين العقد المرصّع بالأحجار الذي أهديته لك قبيل زواجك بأسبوع؟ فقلت مستغربة: نعم، ما به؟
-هاتيه.
-حسناً عمّتي، ومشيت صوب الغرفة أبحث عنه في صندوق مجوهراتي حتى وجدته.
أمسكت عمّتي العقد وبدأت تفكّ الأحجار الموجودة فيه حجراً حجراً، وتحت كل حجر قد وضعت شعرة أو ظفراً، وأنا يكاد يُغشى عليّ من هول ما رأيت، فصرختُ سائلة إيّاها: ما هذا!! قولي ما هذا!!
علا صوت نحيبها وقالت: هذا عمل سفليّ، توجّهت صوب أحد السحرةِ ليصنع لي ما يضعُ بينكما العقابيل والعراقيل، فكان هذا العقد، سامحيني يابنةَ أخي فأنا لا أريد أن أفقد بنتًا أخرى من بناتي! لعن الله الحسد، لعن الله الغيرة، لعن الله الحقد والحاقدين.