بعدَ جهدٍ جهيدٍ في بحث عبد المعطي عن عمل عثرُ أخيراً على وظيفةِ حارسٍ في مبنى تجاريٍ كبير يرفضُ الناسُ بالعادة العمل فيه لسيرتهِ المشوبة بقصصِ الأشباح، ولسماعهم قصصاً كثيرةً تتحدث عن هربِ العُمالِ منه، وعن الجنونِ الذي أصابَ بعضهم الآخر، في البدايةِ يتردّد عبد المعطي ويحاول التَملص منه، لولا أن زوجتهُ حثتهُ مغضبة على الشروع فيه، قائلةً: لم تجد عملا آخر منذُ شهر، والمؤونةُ شارفت على الانتهاء، وأبناؤك في حاجةٍ إلى ثيابٍ جديدةٍ ودفاتر وأقلام، و....

يقاطعها عبد المعطي بنبرةٍ يائسة: حسناً حسناً، سأذهب في الغدِ لأبدأ العمل.


الفصل الأول

في أحدِ المباني التجارية الضخمةِ الشهيرة في إحدى المدنِ الساحلية كانتِ المناوبةُ الأولى لعبدِ المعطي في عملهِ كحارسٍ ليلي الذي ظلَّت فرائصهُ ترتعدُ خوفًا طوالَ يومينِ قبيلَ استلامهِ العمل، بسببِ الأقاويل والشُبَهِ التي كانت تُنسجُ حول هذا المبنى، من وجود أشباحَ مخيفةٍ فيه، وهو يقول في نفسه: أشباح! سترك يا رب، لولا الفاقة لما اضطُررت إليه.


جلسَ عبدِالمعطي، في أول ليلةِ عملٍ له مع زملائهِ الآخرين يحتسونَ الشايَ ويتسامرون، وفي قلبهِ فزعٌ يحاولُ كبته والسيطرة عليه، كما هو حالُ الموظفين الجدد الآخرين، وفجأةً، يُسمعُ من الداخلِ رَجعُ أقدامٍ كثيرةٍ تَقرعُ الأرض، هُيّء لهم أنها تتنقلُ بينَ الغرف، ثُمَ ترددَ صوت بكاءٍ مخيف، في البداية كان الصوتُ خفيفًا وبطيئًا، ثُمَّ أخذَ بالارتفاعِ والسرعة، حتى غدا مُرعباً، تجمدَ عبد المعطي على مقعدهِ، وأخذت أسنانه بالاصطكاك، من أثرِ البردِ والخوف، فعلا صوتُ صراخٍ من جديد، بنبرةٍ غاضبةٍ هذه المرة، وأخذتِ الأبوابُ تُصفق بشدةٍ، فيما تردد صوت مخنوقٌ يقول: إبقوا هنا، لا تذهبوا... وسُمعت جلجلةُ أجراس وشيءٌ معدني يسحبُ على أرضية الغرفة فأصدر صوتًا حاداً.

يسودُ السكونُ برهةً من الوقت...

تأملَ الحُراسُ بعضهم بعضًا مُتأهبينَ للفِرارِ بعيونٍ جاحظةٍ، وأفواهٍ مزمومة، وقلوبٍ تكادُ أن تُحطمَ أضلاعهم من شدة الخفقان..

واستُؤنفتِ الضجةُ من جديدة:

تعالوا تعالوا، اسمعوا كلامَ بابا، اسمعوا كلام بابااا حتى لا يزعل مِنا.. بابا يريدنا صالحين.

وتُخبطُ النوافذُ بِغلظةٍ فيُسمع صوتُ انهمارِ قطع الزجاج على الأرض، ومن الفناء، لوحظَ ضوءٌ خافتٌ يثبتُ ثمُ يرمشُ وينطفئ.

ثأثأَ عبد المُعطي مُتلعمثًا: -اللَـ عـ نة أواه...مــ ـا هذا الـذ ي نَسـ مـ عه يـ ا رَب!.

تطلعت أعين الجميعِ الوَجلةِ إلى قاسم وهو أقدم الموظفينَ في المبنى، منتظرينَ منه توضيحاً للأمر.

نظر قاسم كبير الحراس الموظف القديم في الشركة إليهم، وقال: حسنًا، اتبعوني.

وتبعهُ الرجال دون أن ينبسوا ببنت شَفة، وقلوبهم تفيضُ فزعاً وذعراً لهِول ما قد يرونه، وخشيةَ أن يلحقهم أذىً.

قال كبيرُ الحراس ببرودٍ عجيبٍ وهو ينيرُ الطريقَ بِمشعلهِ:

تمتم قاسم: تعالوا إلى هنا، وانظروا إلى الداخل.


مشى الرجال في تباطؤ مترددين حتى عبروا الممر، وما إن وصلوا الغرفة وألقوا أبصارهم داخلها حتى رمقوا في الظلام ظلالًا بيضاءَ قبيحة لامرأةٍ كبيرةٍ وستةِ أطفالٍ مربوطينَ كالأنعام يطأطئون رؤوسهم إلى الأرض، بينما تصدرُ منهم أصواتُ نشيجٍ خَافتة...

صرخَ عبدالجواد وقد اقشعرَ بدنهُ، وانتصبُ شعرُ جسدهِ من شدةِ الارتياع، وفَرَّ هاربًا إلى الساحةِ الخارجية، وكذا فعلَ رفاقه، وبينما هم متحلّقون إلى جانبِ بعضهم لمحاولة استدرار الطُمأنينة، لمحوا كبيرَ الحرس يخرجُ من البوابة الرئيسية بهدوءٍ وجلالٍ وسيجارته في يده، فخاطبهم ضاحكًا:

هأهأهأ.. ذكرمتوني في شبابيَ الغابر، حين كانت تريعني هذه المشاهد، لكنني هنا منذُ عشر سنوات، والإنسانُ كما تَعلمون حيوانٌ يَتعودُ كلَ شيءٍ، مهما بلغت فظاعته. اجلسوا في مقاعدكم، لأسردَ عليكم حكايةَ هذه الأشباح.


الفصل الثاني

يُروى أنه قبلَ مئة عام كانَ يقومُ على أنقاضِ هذا المَبنى بيت من الخشبِِ تسكنهُ امرأة توفي زَوجها أمامَ عينيها بمرضٍ لم يُعرف كُنهَهُ آنذاك، وقد كانت متولهةً في حبهِ، فأوصاها وهو يُحتَضر في فراشه بأن تحيا حياةً صالحةً فلا تتركَ بيتها تحت أي ظرفٍ، ولا تخونه، وأن تعتني بأطفاله الستة وتدفنهُ بعدَ موتهِ في فناء المنزل، وبعد وفاتهِ بأسبوعٍ واحد، أُشيعَ في الحيِ أن إعصاراً مدمِراً رهيباً سيجتاحُ المنطقةَ بأسرها، وأنهُ يجبَ عليهم إخلاء المكان على الفور، لكن المرأةَ الثكلى التي أضعفَت وفاةُ زوجها عقلها، والتي لم تجفَ دموعها ودموع أطفالها على فراقه بعد، أبوا تركَ البيتِ التزاماً بوصيته ظانينَ أن روحهُ ستلعنهم، قائلةً للِصغار أن اللهَ سينقِذهم ولا شك لأنهم صالحين ويسمعونَ كلامَ بابا.


فتقيّدُ صغارها بالحبال وتمسكُ بقوةٍ طرفهُ في يدها وتجلسُ منتظرةً اللحظة الموعودة، وبالفعل ينقلبُ النهار إلى الليل، وتعصفُ الرياح وتزمجر، ويهوجُ الموجُ ويموج، فيقلبُ الإعصارُ سحنةَ الساحلِ رأسًا على عَقب، ويدفنها إلى جانب أطفالها المُقَيدينَ تحت البيت، ولا تزالُ أرواحهم المكلومةُ تسكنُ المكان حتى الآن.