بداية القصة
في ديوانِ عُمدةِ البَلدة يجتمعُ كلَ مساءٍ رجالُ القرية، وهم أناسٌ أقوياء الشكيمةِ على جانب كبير من الجسارةِ والإقدام يتسامرونَ ردحًا من الليلِ يجترون فيه قصصَ بطولاتهم بأنفةٍ واعتزاز، حيث تعارف القوم منذُ زمنٍ على تحدٍ ليليٍ يقعُ في كل يومٍ على رجلٍ من رجال القرية، وقد أداهُ جَمِيعُهم على أكملِ وجه، ولم يتبقَ في البلدةِ كلها إلا عَطوة السالم وهو شابٌ ثلاثينيٌ دميمُ الوجهِ، أسود الشعر، طويل القامة، ونحيل الجسم، وهوَ معروفٌ في سائر أرجاءِ القرية بِجُبنهِ وَضعفه، الأمر الذي يجعلُ منهُ مثاراً للِتهَكُمات.
الفصل الأول
يمسكُ العمدةُ طرف شاربهِ ويفتلهُ بكلا أصبعيه بينما يقرعُ الأرضَ بعِكَازهِ المُذَهبةِ المزركشة بيدهِ الأخرى، قائلًا في صرامة: جَميعكم أبلى حسنًا، لكن والحَقُ يُقال كانت مهمتي التي اخترتها لنفسي أصعبَ المهمات وهي بلا شك تتناسب ومكانتي ووضعي، وما كنتُ لأرتضيَ غيرها، فلقد هبطتُ الوادي ليلةَ أمسٍ كما تعلمون وانتظرتُ ساعتين كاملتينِ لحينِ ظهورِ الذئب الأعور الذي يهابه الجميع، لأطلق عليهِ النارَ وأسلخ جلده وأحضره إليكم، وهذا ما كان، عَرَفهْ أحضره، فيدخل عرفة وبيده الذئب الأعور حقّاص ويلقيه بعنفوان أمام القوم وكأنّه هو من اصطاده.
في ذات الوقتِ يجلسُ الفلاح عطوة السالم في بيته وعلى أريكتهِ بعد عودته من الأرض وقد نالَ منهُ التعب، وتضعُ زوجتهُ الطعامَ أمامه على الأرض بجفاءٍ وبغيرٍ قليلٍ من خشونة، فيلاحظُ عطوة ذلكَ منها، ويسألها وقد واربتهُ: ما بِكِ؟.
تجيبُ من الغرفة المجاورة وقد علا صوتها: سيرتنا على كُلِ لِسان، وأطفالك أتوا من المدرسة يبكونَ من تهكم الأولاد على أبيهم، لأنك الوحيدُ في القريةِ الذي لم يخضِ أيّ تحدّ حتى الآن، ويقولون: جاء أبناء الأهبل، ذهب أبناء الأهبل ويمدون لهم ألسنتهم، لا لا هذا الوضعُ لم يعد مقبولًا البتة.
يتجهّمُ عطوة ويضيقُ صدرهُ فيضغط بيدهِ على صدغيه بقوةٍ، ثمَّ يثبُ مُهتاجاً ويخرجُ صافقًا الباب الخشبيَ خلفه مقلقلًا أركانهُ، وقد لاحَ لزوجتهِ أنهُ قالَ: سأذهبُ إليهم.
على بعدِ خطوات قليلة رمقَ عطوة الديوانَ المُضاءَ بالقناديل وقد تناهى إلى مسامعهِ حديثُ القوم عن مآثرهم، فتوقفَ وطَفِقَ يمسحُ وجهَهُ بيدهِ متردداً وهو يفكر في العودة إلى بيته، فتذكر صورته أمام زوجته وأولاده فبصقَ على الأرضِ وواصل التقدم محدثًا نفسه: فليكن ما يكن.
عبرَ باب الديوانِ واجمًا، وقال: سلامُ اللهِ عليكم، يا عمدة اختر لي تحدياً أقوم به الليلة.
عَجِبَ الجمعُ لقوله وتبادلوا النظرات فيما بينهم، ثمَ ثبتوها على العمدةِ ليفصلَ في الأمر، فقالَ عمدة القرية وهو يرشقه بنظرة متحدية: أأنت متأكّد يا عطوة؟ أومأ عطوة برأسه بالإيجاب، فقال العمدة بابتسامة تحدٍّ بادية على وجهه: عَرَفة أحضر قضيبًا فولاذياً ومطرقةً وناولهما لمغوارِ قريتنا.
والتفت إلى عطوة وقال: مهمتك هي في الذهابِ إلى المقبرة العمرانيّة في آخر الحي أتعرفها؟ بلع عطوة ريقه وقد اصفرّ وجهه وقال: نــ نـعـ نعم أعرفها، ولكن لماذا؟؟، قال العمدة: فقط سلملي على جدّي الميت ضحك الحاضرون كلّهم وقد احمر وجه عطوة من الغضب وقال بنفاد صبر: ثمّ ماذا؟ فقال العمدة: فقط غرس هذا الوتد بجانب أحد القبور وارجع، وتمتم بينه وبين نفسه (هذا إن رجعت).
الفصل الثاني
دقت الواحدة بعد منتصف الليل إنّه موعد النزال، وفي البدءِ سار عطوة نحوَ المقبرةِ رابطَ الجأشِ ثابت الخطى، لكنهُ ما إن ابتعدَ عن أضواءِ البلدةِ وأحسَ نفسه في غابةٍ موحشةٍ يُغَلِفها سوادُ الليلِ البهيم حتى بدا متَهيباً وقد تسرب الخوف إلى أعماقِ نفسه، وأخذَ يلعنُ الساعةَ التي قرّر العمدة فيها إقامة هذا التحدي، وبينما هو يمشي ويسمع لهاث نفَسه المتصاعد، وصوت قَرع نعالهِ الخشنِ يتردّد على العُشب في المكان ويصغي بإمعانٍ إلى نغماتِ صرصرةِ مئات الحشرات متباينةِ الإيقاع في لازمةٍ واحدةٍ ثابتة، هَا هُوَ ذا يسمعُ عواءَ ذئبٍ من أحد الأرجاء البعيدةِ، فيهرولُ راكضاً وهو يكظمُ صيحته، وقد امتقعَ وجهه وارتعشت أوصاله وبات يحسُ وجيبَ قلبه من شدة الذعر والوحشة.
وأثناء عبورهِ الطريقَ الموحشة شعرُ بأنَ قدمه تدوسُ جِسماً غريباً وقد عَلقَ بها، فانحنى يزيله وقد ظنّ أنّه كوم من شوك جاف، وإذا بشيءٍ يطبقُ على أصابعهِ بإحكام، فيسحبُ يده بحركةٍ آليةٍ وهو يُعوِلُ وقد تبينُ له أنهْ أبو بريص، فشدهُ بيدهِ بقوةٍ كبيرة وهو يولول مخلَِصاً قدمه منه وقذفه بعيداً وولّى راكضاً يسابق الريح، وتشمُ خفافيشُ الليلِ رائحةَ الدمِ المنساب من يده، فيهجمُ سربٌ منها عليه ويحومُ قريباً من رأسه، فيغطيه بذراعيهِ بادئ الأمر وينحني وهو يزعقُ: آآآآه... آآآآه... ابتعدي عني، وعندما تهبطُ على رأسه ويديه ويشعر أنه لا جدوى من الدفاع يقفُ ويحركُ يديهِ بسرعةٍ في جميع الاتجاهاتِ فتتركه وتطير بعيداً، فيحملُ مطرقتهُ ويواصل السير وهو يلعن الساعة التي قبل بها هذا التحدي، ويتهيأُ له أثناء سيرهِ أن عيونًا كثيرةً جائعةً تضيءُ بين الخمائلِ والأجمات وفوق الأغصان، وأنها تتربصُ به شراً، فيحبسُ أنفاسهُ بينما يتصببُ عرقًا، ولا يجد إلّا أن يقرأ ما حفظه في الكتّاب من آيات قرآنية قد تُبعد عنه هذا كلّه، وتأذن لهذه الليلة اللعينة أن تنقضي.
بدت له المقبرة بشواهد قبورها من بعيد، فازداد رعب عطوة واضطرابه، وأخذ يركضُ باتجاه البوابةِ لإنهاء المهمةِ بأسرع وقت ليقرب نهاية عذابه، وبينما هو يعبرها راكضاً تعثرَ بحجرٍ وخرَّ ساقطاً على وجههِ سقطة أُدمي على إثرها، لكنهُ أنهضَ نفسه بيديه اللتين تتشبثان بالأدوات وهو يزفرُ ويتأوهُ.. وواصل الزحفَ حتى وجدَ نفسه يدركُ قبراً من القبور، فوضع الوتد اللعين على الأرضِ وأنهض نفسهُ وبدأ بطرق الوتد في الأرض بشكل مجنون، وكأنّه في كلّ طرقة يهشّم ألسنة أهل الحي، وزوجته، والأطفال في المدرسة ممّا يقولون عنه، وعند الطرقة الأخيرة ضلّت المطرقةُ المطرقة طريقها عن الوتد إلى أصابعهِ فتورّم وأدمي عندئذٍ أخرجُ عطوة من صدره صيحةً فظيعة وهوَ يُلقي المطرقةَ بعيداً عنه، وأديرَ ظهرهُ ليهرب، فإذا بشيءٍ ما يشده من الخلف بقوةٍ حملق عطوة عينيه حتى كادتا تخرجان من رأسه، وأخذ يقاوم هذا الشيء الذي لا بدّ أنّه ميّتاً قد عاد إليه روحه لا محالة، وأخذ يصرخ أنقذوووني أنقذوووني، وزارد على ذلك خيالاً رمادياص لاح أمام عينيه فجأة ثم استقرّ بالقرب منه، قاوم عطوة ذلك طويلًا وحاول التخلص من قبضة الميّت القوية مراراً وتكراراً لكن دون طائل.
الفصل الأخير
في الصباح الباكر ينبعث أهل الحي لاستطلاع أمر عطوة قبل الذهاب إلى أشغالهم من شدّة فضولهم، ويتهامزون ويتلامزون أنّه لا بدّ لا زال نائماً وقد غطّى باللحاف وجهه من الجبن الذي ابتلاه به الله، وبينما هم يتضاحكون ويتهكّمون يشير أحدهم أن اصمتوا فها هي خديجة زوجة عطوة المغوار قادمة، تلقي خديجة السلام مشغولة البال وتقول: ألم يعد عطوة من هذا التحدي اللعين؟ لقد غادر البارحة بعد منتصف الليل ولم يعد حتى الساعة! تتفتح عيون البعض اندهاشاً لما سمعوا، بينما تنفتح بعضها نصف فتحة وكأنها تتهم عطوة وزوجته بالقيام بهذه التمثيلية السخيفة لإثبات قيامه بالتحدّي، وبينما هم كذلك يُقبل سالم حارس المقبرة من بعيد وهو يصرخ ويقول: يا قوم، يا قوم، ويلكم ويلكم وجدتُ عطوة...وجدته وقد جمُد قلبه وفارق الحياة بجانب أحد القبور، لقد دقّ الوتد في طرف ثوبه من الخلف، وخصلة شعره الرمادية التي شابت من الخوف تتدلى أمام عينيه!.