خطأ مخترع
تخرّج فادي حديثاً من تخصص الحاسب الآلي من إحدى جامعات مدينته بعد أن بلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً، إلّا أنّ شغفه كان يتّجه دائماً نحو علم الكيمياء وخاصة عند رؤية والده الذي يعمل كمدرّس لمادة الكيمياء في إحدى الجامعات يقوم بتجاربه الخاصة في مختبره الصغير الذي أنشأه منذ أعوام داخل غرفة خاصة في منزله.
كان والد فادي الذي يدعى وليد يقضي ساعات طويلة داخل مختبره فور عودته من عمله مغلقاً خلفه الباب، ويبدأ بتجارب سرية بحرص واهتمام بالغين من خلف مكتبه دون السماح لأحد من أفراد أسرته بمشاطرته تجاربه الخاصة، كان وجه وليد يبدو قلقاًً عند خروجه من المختبر دوماً، يرافقه قدر هائل من الحزن الذي يبدور كجبل جاثم على صدره، أمّا زوجته سميرة التي كانت تقترب منه دوماً محاولة الاستفسار عن السبب وراء ذلك الحزن الذي يسيطر عليه كلما انتهى من تجاربه، فكانت تُقابَل دوماً بالغضب طالباً منها عدم التدخل بشأنه هذا، أو الاقتراب من مختبره.
كان دخول تلك الغرفة الصغيرة حلماً يراود فادي دوماً، إلّا أنّ والده لا يسمح له بالاقتراب نحوها، حتى أنّه في أحد الأيام وبينما والده في الداخل تسحّب عند ثقب الباب وبدأ يسترق النظر إليه، حتى شعر به والده ورمقه بعينين يتقافز منهما الشرر، وقام بتحذيره من الاقتراب مجدداً، في تلك الأثناء أيقن فادي أنّ هنالك سراً خطيراً هو وراء منع والده له من الاقتراب نحو المختبر، لذلك قرّر سرقة المفتاح الذي كان يخبّئه والده في غرفة نومه والدخول إلى المختبر خلسة، وذات ليلة انتظر والده حتى يغط في نوم عميق، وتسلّل إلى غرفته على أطراف أصابعه وقام بسرقة المفتاح مسرعاً نحو المختبر.
دخل فادي المختبر ليتفاجأ بكمية الكتب والصور من حوله، فبدأ يتلفّت باحثاً عن الشيء الذي يجعل والده يمنعه من الاقتراب أو يخفيه عنه، وأثناء ذلك سقط في يده كتاب كبير ليس كغيره من الكتب كان قد أثار فضوله فبدأ يطالعه بشغف، لقد كان كتاباً غريباً يحتوي على العديد من التجارب الكيميائيّة ذات النتائج العجيبة، وهو ما دعا فادي لأن يستمر بقراءته عدة ساعات، بل وتعدى ذلك إلى تجربة بعض التجارب المكتوبة داخله، فأشعل موقد الغاز واضعاً الدوارق عليه، لقد كانت هذه المرة الأولى التي يقوم بها فادي بمثل هذا الشيء، وهو ما دفعه لأن يكون شديد الترقّب والحذر، فيما يغطّ والداه في نوم عميق وهو الشيء الذي أسعده وحفّزه على الاستمرار، وبعد ساعات من إجراء التجارب وتطبيقها ملأ الدخان الغرفة فجأة وأصبح كالضباب، حتى غطّت غشاوة عينيه فيما بدأ يحس بالدوار، وسقط مغشياً عليه، وبعد مدّة لا يعرف بكم تقدّر استيقظ الفتى فوجد نفسه في مدينة غريبة لا يعرف بها أحد، فرك عينيه، ونفض الغبار عن نفسه، وبدأ يلتفت حوله مُستغرباً ذلك، لقد كانت مدينة جميلة جميع بيوتها ملونة بألوان زاهية ومختلفة عن بعضها البعض، فقام وبدأ يمشي في شوارع المدينة ويحملق بوجوه الناس في ذهول وحيرة، حيث الباعة المتجولين، والنساء يتسوّقن في المتاجر، والأطفال يلعبون معاً، عندها مرّ أمامه رجل كبير في السن، قام فادي بمناداته لعله يستطيع معرفة اسم هذه المدينة، وأين هو إلّا أنّ الرجل العجوز لم يُجبه واستمر بالمشي، ثم قرّر أن يسأل فتاة كانت تسقي الورود أمام منزلها الملوّن وعندما اقترب منها أدارت ظهرها ودخلت إلى المنزل، استغرب فادي من تصرفيهما، وبرّر ذلك بأنّهما لا بد خائفين منه كونه غريب عن مدينتهم إلى أن قرر الاقتراب من طفل كان يجلس وحده، ولمّا سأله عن اسم المدينة بقي الطفل ينظر أمامه وكأنّ لا أحد أمامه، حتى إنّ فادي قام بوكزه لعلّه يلفت نظره لكن الطفل لم يستجب له بل قام بوضع حقيبته بجانبه مما أدى إلى ارتطامها بفادي دون اكتراث، عندها أيقن فادي أنّ الطفل لا يراه ممّا يعني أنه غير مرئي بالنسبة لهم.
فرصة نجاة
استمر فادي بالمشي وهو يجرّ قدميه مرتجفاً والاصفرار يعلو وجهه باحثاً عن طريقة للعودة إلى منزله، وأثناء ذلك التفت أمامه ليرى منزلاً غريب الشكل كان قد رآه ذاته داخل ذلك الكتاب، وحينها قرّر الاقتراب منه محاولاً الدخول حتى بدأت ضربات قلبه تتعالى شيئاً فشيء والقشعريرة تسري في جسده، وفور دخوله سمع صوتاً مألوفاً يناديه باسمه، فجمد برهة من الوقت والتفت خلفه بترقّب المنادي، ليجد جدّه الذي توفي منذ عام يفتح يديه لاحتضانه، والبسمة تكاد تشقّ شفتيه، وهو يقول بصوت أقرب للبكاء: لقد طال انتظاري لكم، كنت أعلم أن أحدكم سيأتي لإنقاذي.
شهق فادي عند رؤيته لجده، واتّجه نحوه مسرعاً وقال له بصوت مرتعش: كيف؟ وقد متَّ قبل عام؟!
هزّ جده رأسه وقال: مَن قال انّي مت! لقد دعاني والدك قبل عام إلى مختبره متحمساً ليريني آخر ما توصل له من تجارب جديدة، وخلال قيامه بذلك بدأت أشعر بثقل في أطرافي، وغشاوة في عيني حتى وجدت نفسي وحيداً هنا لا يراني أحد.
وفي تلك الأثناء استيقظ وليد والد فادي لشرب الماء وعند ذهابه إلى المطبخ تفاجأ بضوء المختبر مشتعلاً، فركض مسرعاً نحوه وصوت دقات قلبه يتعالى، وفور دخوله إلى المختبر لم يجد به أحداً سوى موقد الغاز مشتعلاً، ركض نحو غرفة فادي وهو يتضرّع إلى الله بألّا يكون قد أقدم الفتى على ما أقدم عليه جدّه، فوجدها فارغة، وحينها أيقن بأن فادي هو من أشعل الضوء ودخل خلسة، فيما استيقظت زوجته سميرة واقتربت منه مستغربة وقالت له: ما الذي أيقظك في هذا الوقت المتأخر؟
فأجابها منهاراً: لقد سرق فادي المفتاح، ولا أدري أين ذهب.
ثمّ شهق بصوت مرتفع لاطماً وجهه عندما وقع نظره على مكتبه ليرى الكتاب الذي يجري عليه تجاربه مفتوحاً، وقد أيقن بأنّ فادي لا بدّ لاقى مصير جدّه، وبينما علامات الحزن، والارتباك تبدو على محيّاه، ركضت سميرة للالتقاط الكتاب باكية تقول: ماذا؟ مصير جدّه!! ألم يكن جدّه قد مات مثلما أخبرتني! هيّا هيّا خذ كتابك اللعين هذا وافعل شيئاً، أعدهما إلى حيث أخفيتهما.
وبينما هي في حالة ذعرها هذه أسقطت بيدها المرتعشة المشعل الذي كان لا يزال مشتعلاً ليبدأ بالتهام كلّ ما في المختبر، لا سيما ذلك الكتاب الذي كان هو الأمل الوحيد لعودة الجدّ وحفيده.