في أعماق البحر

ماجد أمهر غوّاص في مدينته، حيث يجول ويصول في أعماق البحار منذ عدّة سنوات حتى أصبح البحر منزله الثاني، وهو الأمر الذي يجعل والديه يقلقان عليه بشكل دائم معتبرين أنّه يخاطر في حياته بمهنته هذه، لذا كانا دوماً ما يحاولان إقناعه بضرورة الزواج والاستقرار آملين منه تغيير مهنته إذا أنجب طفلاً، لكنه كان دائم الرفض لفكرة الزواج.


الحب المستحيل

في أحد الأيام طلب مسؤول ماجد في العمل منه إعداد تقرير عن قناديل البحر لنشره في إحدى المجلات العالمية، قائلاً له أنّه لم يجد أفضل منه للقيام بهذه المهمة، ولمّا أخبره بذلك ابتهج وشكره على اختياره له، وقبل مضيّه في الرحلة الموعودة قام مسؤوله بالعمل بتحذيره وقال: خذ حذرك يا ماجد، فهذه القناديل كائنات لاسعة كما تعرف، كما أنّ بعضها عالي السميّة يستطيع القضاء على حياة الإنسان في دقائق، لذا احذر منها جيداً.

ابتسم ماجد ووضع يده على كتف مسؤولة وقال: لا تقلق لقد أمضيت في البحر سنوات عديدة، على العموم أعدك سأكون حذراً جيداً.

ثم خرج من مكتبه مُتجهاً نحو البحر وبدأ رحلته داخل أعماقه بين الشعب المرجانية والأسماك، وعلى عمق ليس بقريب وصل إلى مجموعة من قناديل البحر المُضيئة، فبدأ بتصويرها والاقتراب منها لإعداد التقرير، وفجأة ظهر أمامه شعاع مضيء عمّ البحر بأكمله، ولمّا دقق النظر شاهد حورية بحر جميلة، وجذابة شعرها أجمر وطويل تحوم حوله، فوقف مشدوهاً لرؤيتها، ثمّ فرك عينيه واقترب منها وقال: لقد أمضيت في البحر سنوات عدّة، وهذه هي المرة الأولى التي أرى فيها حورية بحر.

ابتسمت الحورية بخجل وقالت وهي ترفرف بعينيها الجميلتين: وأنا هذه هي المرة الأولى التي التقى فيها مع بشري.

بدأ ماجد يُعرّفها على نفسه وهو يناظرها بدهشة، حيث كانت لا تشبه فتيات الأرض من شدة نعومتها ورقّتها، حتى إنهما استمرا في الحديث معاً لساعات طويلة، وبعد ذلك نظر ماجد إلى ساعته وأخبرها بضرورة عودته إلى السطح، ثم طلب ملاقاتها في اليوم التالي في المكان نفسه،ثمّ صعد إلى اليابسة يحلم بقدوم يوم غد بعد أن سلّم تقريره.


في تلك الأثناء كانت الحورية الجميلة تجلس مبتسمة على صخرة في عمق البحر، فيما ظهرت والدتها وقالت: ما خطبك يا آن! لم أشاهد ابتسامك الجميلة هذه منذ مدة طويلة.

التفتت الحورية وقالت لأمّها بصوت رقيق: لقد التقيت هذا الصباح ببشريّاً من الأرض يدعى ماجد، لقد كان وسيماً وجذاباً جداً على عكس ما صوّرتِ لنا به البشريين يا أمي، لمَ فعلتِ ذلك؟

تبدّل وجه الأمّ عندما سمعت ذلك، وغضبت كثيراً وقالت: كيف تجرؤين على ذلك، ألم أحذّركِ من بني البشر من قبل؟

قالت لها الحورية: لكنني تعاملت معه ولم أرَ منه شيئاً ممّا كنتِ تحذرينني منه، كما أنه لم يؤذني قط مع أنّه كان بإمكانه ذلك.

ازدادت والدتها غضباً وقالت: لا تعصي أوامري يا آن، أقسم إن قمتِ برؤيته مرة أخرى فسأحبسك في صدفة كبيرة لن تخرجي منها أبداً.

دُهشت الحورية من ردّ فعل والدتها لكنّ هذا لم يثنيها عن لقاء البشري يوم غد، بينما لم يستطع ماجد النوم في تلك الليلة منتظراً لقاءه مع الحورية الجميلة أيضاً.

وفور حلول الموعد غطس ماجد إلى أعماق البحر بحثاً عنها، حيث كانت الحورية في ذلك الوقت تستعد للخروج لملاقاته خلسة دون معرفة والدتها بذلك، وعندما التقيا كانا سعيدين جداً بذلك اللقاء السحري، وتبادلا أطراف الحديث حتى طلبت الحورية منه إخبارها عن حياة البشر على اليابسة، وفيما هو يتحدث واصفاً لها الحياة في الأعلى كانت هي تجلس مندهشة من كلامه، باحثة عن السبب وراء كره والدتها لبني البشر بالرغم من صفاتهم الجميلة التي تسمعها من حديث ماجد، حتى إنّها سألته: أيمكن للحوريات العيش على اليابسة؟

ضحك ماجد وقال: لا علم لي بذلك يا آن، لكن أعدك بأن نحاول تجربة ذلك سوياً.

نظرت آن له وهي ترفرف بعينيها وقالت: ماذا تقصد بذلك؟

قال لها والحماس يملؤه: أتقبلين الزواج بي؟

اندهشت الحورية واحمرّ وجهها خجلاً ثمّ نظرت أرضاً وقالت: لكن كيف ستعيش في البحر طوال حياتك وأنت بشري؟

اقترب منها ماجد وقال: من أجلك سأعيش بين الأرض والبحر.

ثم أخبرها بأن تقوم بتحضير نفسها غداً في الصباح مع بزوغ قرص الشمس، وتدعو من تشاء وذلك لإقامة حفل زفافهما سوياً أمام الجميع، ثم قام بتوديعها مُتجهاً نحو اليابسة، وما إن التفتت الحورية خلفها حتى وجدت والدتها تناظرها بغضب وتقول: ألم أُحذرك من التعامل مع بني البشر؟

بدأت الحورية بالبكاء وقالت لها: لماذا تكرهينهم بهذا الشكل! على الرغم من أن ماجد أخبرني بأن البشر متعاونون جداً، محبّون لبعضهم البعض أكثر من الكائنات البحرية.

بدأت والدتها بالبكاء متحسرة وقالت لها: إنهم لا يحبّون إلّا أنفسهم، لقد حان وقت إخبارك بسر وفاة أختك.

تنهّدت والدتها وقالت: لقد تعرّفت أختك منذ سنوات على صيّاد وسيم أوهمها بأنه سيريها اليابسة بعد أن أخبرته عن حلمها في رؤية الأرض، وعندما وثقت به وذهبت معه قام بصيدها وقتلها لعرضها في أحد معارض الأحياء المائيّة وجنّي الثروة والشهرة.

صُعقت الحورية ممّا سمعت، لكنّها أصرّت على أنّ هناك الجيد والخبيث في كل البيئات، واستمرت بالإلحاح لإقناع والدتها للموافقة على ماجد، حتى وصل بها الحال إلى أن تهدّد بالانتحار إذا لم توافق على طلبها، وعندما سمعت والدتها بذلك وشعرت بجدّية تهديدها خافت أن تخسر ابنتها الثانية؛ لذلك قررت الموافقة على الزواج به، لكنّها حذّرتها بأن الزواج من بشريّ يستلزم منها وضع دبوس في شعرها سيفقدها خصائصها كحورية، حيث لن تستطيع العودة إلى ما كانت عليه أبداً.

صمتت الحورية قليلاً ثم أشارت لأمّها بالموافقة.

وفي تلك الأثناء دخل ماجد إلى منزل والديه وقال لهما: لقد قرّرت أن أحقق حلمكما بأن أتزوج.

الأم: يا لفرحتي يا بنيّ، ومن هي سعيدة الحظ؟

-حورية جميلة كنت قد تعرّفت عليها أثناء غطسي في أعماق البحر.

لطمت الأم وجهها وقالت: ماذا؟؟ من بين آلاف الفتيات في مدينتنا لم تلفتك سوى حورية بحر!

رفض الوالدان اقتراح ماجد فيما ظلّ يحاول إقناعهما لساعات، حتى وقف والده غاضباً مهدداً له وقال: اسمع يا ولد. إن أنت أصرّيت على موقفك هذا فسأحرمك من الميراث، ولن أسمح لك بالعيش في هذا المنزل، صُدم ماجد من ردة فعل والده وأخبره بأنّه لن يتخلى عن تلك الحورية مهما كلّف الأمر، ثم طرق الباب خلفه وخرج غاضباً.


الخاتمة

وبعد ساعات عاد الشاب المدلل يسترضي والده بعد أن أحصى ما يملكه من ثروة، ويخبره بأنّ ما أخبرهما إيّاه كان مجرد هزل ظريف يريد أن يرى به ردّة فعليهما، تنهد الزوجان لما سمعاه من ولديهما، ثمّ ضحكوا جميعاً ضحكة طويلة، فيما كانت الأمّ تضع الدبوس لابنتها الحورية وهي تذرف الدموع، وقناديل البحر تزيين المكان بالأضواء، وأحصنة البحر تعزف أجمل الألحان، وظلّوا على ذلك حتى غاب قرص الشمس ولم يأتِ أحد، فأشارت الحورية لهم بالتوقّف وعلى خدّها لآلئ من الدموع..

وصوت والدتها خافت من خلفها، ومبحوح من فرط البكاء: ألم أقل لك لا تثقي يا ابنتي ببني البشر!