سنّ الأمل
ممّا لا شك فيه أن الجميع يحزن عند تقدّمه بالعمر، إلّا أن فاتن كانت تتعامل مع هذا الموضوع برحابة صدرٍ وروحٍ رياضية، فقد اعتادت على الاحتفال بيوم ميلادها من كل عام مع صديقاتها، وأبنائها، وأحفادها الخمسة، وحين بلوغها الستين عاماً أقامت حفلاً كبيراً دعتهم عليه دون الشعور بالخجل من عمرها.
توفي زوج فاتن منذ ثلاثين عاماً في حادث سير، ومنذ ذلك الحين أفنت حياتها في تربية أبنائها وتعليمهم إلى أن تزوجوا وأنشؤوا أسرهم الخاصة، وبعدها بقيت تعيش وحيدة تذهب لعملها صباحاً لتعود إلى منزلها مساءً دون أن ينتظرها أحد، أما عن علاقتها مع أبنائها فكانت مبنيّة على الصداقة أكثر من الصرامة، كانوا يزورونها باستمرار إلّا أنّ مشاغل الحياة تجعلهم يعودون إلى منازلهم في وقتٍ مبكّر لتبقى هي وحدها بقيّة الليل.
في أحد الأيام كان لفاتن موعد في المستشفى لإجراء بعض الفحوصات الروتينيّة، وأثناء انتظارها للنتائج مرّ من أمامها زميل لها مُنذ أيام دراستها في الجامعة،
قامت فاتن بندائه بصوتٍ عالٍ بعد ملاحظته وقالت له: كريم، كيف حالك!
وقف الرجل ذو الشعر الرماديّ للحظة وهو يحاول معرفة تلك المرأة التي تناديه باسمه، وعندها قالت له: أنا فاتن، لقد كُنّا زملاء في المرحلة الجامعية، ألم تتذكرني؟
وقف كريم لبُرهة من الوقت وقال: يا إلهي، فاتن! كم مضى من الوقت على ذلك، كيف حالك؟
بدأ الزميلان بالحديث معاً ثمّ قررا الذهاب للجلوس في أحد المقاهي، ولم يعرا بنفسيهما إلّا بعد انقضاء أربع ساعات قضياها يستذكران أيام الدراسة، كانت فاتن طوال الجلسة تخبره عن أحفادها وأبنائها وعن علاقة الصداقة التي تجمعها معهم إلّا أن لاحظت أنّه لم يتحدّث عن زوجته أو أبنائه أثناء ذلك، فقامت بسؤاله عن أحواله، وقالت له: كم من الأبناء أصبح لديك؟
قال لها مبتسماً: أنا لم أتزوج إلى الآن.
استغربت من إجابته، وقالت له: لم تتزوج إلى الآن! لماذا؟
قال: قد أسست عملي الخاص منذ سنوات بعيدة، وعكفت على تطويره إلى أن سرقني من حياتي الشخصية.
بعد انتهاء اللقاء، اتفق الصديقان على التواعد مرة أخرى خلال الأسبوع القادم، وهكذا تعدّدت لقاءاتهما، فلقاء يجر لقاء، وجلسة تدعو لجلسة حتى انسجما معاً كثيراً وأصبحا يتشاركان مشاكلهما، وهمومهما، وتفاصيل حياتهما الشخصية مما جعلهما مقربان جداً، في ذلك الوقت كان كريم يخبرها دوماً عن إعجابه بعلاقتها مع أبنائها القائمة على المصارحة والصداقة، وكأنّه يلمّح من خلال ذلك إلى شيء ما، وفي أحد الأيام قررا التواعد كعادتهما وعندها قرّر الرجل مصارحتها بأنه لم يعد يستطيع العيش بعيداً عنها، صُدمت فاتن من حديثه، وقررت أن تتدارك الموقف، فقالت له مُبتسمة بشيء من التوتر: وأنا أيضاً فنحن صديقان مقربان.
فردّ كريم بحزم: أنا لم أقصد الصداقة التي تجمعنا، أتقبلين الزواج بي يا فاتن؟
ارتبكت ولم يعد لها مخرجاً، وقالت: بعد هذا العُمر يا كريم! أتُريدُني أن أتزوج؟
قال: ولما لا! الحب لا يعرف الأعمار، ومن حقنا أن نعيش بقية حياتنا مع أشخاص نحبهم ويحبّوننا.
فاعترفت له: إنني أُبادلك الشعور ذاته، لكنني مترددة كثيراً.
قال لها: أترددكِ سببه خوفك من ردة فعل أبنائك؟
ضحكت وقالت: بالطبع لا، لقد شرحت لك في السابق عن طبيعة علاقتي بهم، كما أنهم يبحثون دائماً على راحتي.
قال: إذن أخبريهم بقرارنا.
قدرٌ مخطط له
في مساء اليوم التالي اتصلت فاتن بأبنائها ودعتهم لتناول العشاء، وأخبرتهم أنها ترغب بالتحدث معهم بموضوعٍ مهم، وعند مجيئهم وانتهائهم من الطعام،
قالت لهم والفرحة ابادية على وجهها: لقد التقيت بصديق لي من أيام دراستي في الجامعة، إنّه كريم، رجل ستينيّ محترم، وله شركته الخاصة في قطاع العقارات، نشأت بيننا خلال الفترة الماضية علاقة متينة، والآن هو يريد الزواج منّي، لا بدّ لي من ترتيب لقاء لكم معه لتتعرّفوا على بعضكم أكثر فأكثر.
وقبل أن تكمل كلامها قاطعها حمزة ابنها الأكبر وصرخ في وجهها قائلاً: نعم! ماذا تقولين؟ كريم ماذا وزواج ماذا في هذا العمر! تريدين الزواج بعد أكثر من ثلاثين عاماً على وفاة أبي!
بينما قال ابنها الأصغر: أتُريدين فضحنا أمام الناس!! ماذا سيقول الناس علينا؟ أهل زوجتي علياء! وزملائي في العمل!.
جمُدت فاتن من ردة فعلهم غير المتوقعة، فهي التي طالما راهنت عليهم أمام الجميع بعد أن أفنت شبابها بتربيتهم، والآن يستكثرون عليها العيش بالشكل الذي يحلو لها! وقد أحلّ الله لها ذلك! اليوم اكتشفت فاتن أنانيتهم، لم تستطع النوم طوال الليل من شدة الصدمة، وفي صباح اليوم التالي اتصلت بكريم وأخبرته أنها تريد لقاءه في إحدى الحدائق العامة، وعند وصوله بدت حزينة جداً، فسألها مستفسراً: ما بكِ يا فاتن؟ أَحَدَثَ شيئاً أزعجكِ؟
قالت له: لقد فاتحت أبنائي بموضوع زواجنا، لكن ردة فعلهم كانت صادمة.
قال لها بنفاد صبر: وبماذا أجابوا، قولي؟
قالت: رفضوا الفكرة واعتبروا أنني سأفضحهم أمام الناس.
استغرب كريم وقال: ألم تقولي لي أنّ علاقتكِ معهم قائمة على الصداقة!
بدأت فاتن بالبكاء وقالت: كنت أعتقد ذلك طوال حياتي حتى ليلة أمس.
قال لها: ما رأيكِ بأن ألتقي بهم وأُعرّفهم على نفسي، لعلهم يغيّرون رأيهم.
فقالت بحسرة: لا أحد يعرف أبنائي مثلي، فعند تشبثهم برأي ما لا يستطيع أحد إقناعهم بالعدول عنه، وأنا في هذا العمر لن أستطيع الدخول معهم في معركة قد تؤدي إلى خسراني إيّاهم، أنا في غنى عن ذلك يا كريم.
ردّ كريم وقال: أنت في غنى عن ذلك يا فاتن؟ أم في غنى عنّي!
قالت له فاتن بحزن: يظلّون أبنائي وقطعة منّي، لكلّ بداية نهاية، وبدايتي معك جاءت متأخرة يا ربيع عمري، وقد قال القدر كلمته وكتب على كلينا أن يعيش خريف عمره وحيداً منكبّا على ذكرياته وحسب، وأدارت فاتن ظهرها ومضت في طريق حياتها وحيدة ثانية.