جمعيّة الأمل

أسست أمل جمعية تُعنى بحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة منذ عام ونصف، وهي التي كانت لطالما تهتم بقضاياهم، وتحرص على ضرورة إعطائهم حقوقهم على أكمل وجه دون تمييز تجاههم من أيّ نوع.


كانت هذه الجمعية بالنسبة لأمل بمثابة حلم تسعى لتحقيقه، فمنذ تأسيسها شرعت بالتعرّف على روّادها حتى أصبحوا أصدقاء مقربين منها يلتقون يومياً ويتناقشون في أمورٍ عدة، وقد كان من روّاد الجمعية شخصٌ يُدعى طارق وهو شاب ثلاثيني يعاني من ضُعفٍ شديد في البصر، لكنّه يمتلك عقلاً منيراً، وشخصية جذابة، وأفكاراً تشابه ما تحمله أمل من أفكار ممّا جعلهما صديقين مقربين يشكوان همومهما لبعضهما البعض، ويتشاركان تفاصيل حياتهما اليوميّة.


كان لطارق صديق يُدعى وسيم وكان قد تعرّض لحادث سير منذ عدّة سنوات أدى إلى بتر قدمه اليسرى، وأقعده حبيساً في بيته نتيجة لصدمته هذه لا يخرج إلّا للضرورة، حتى التقى طارق في إحدى الدوائر الحكوميّة يوماً، فأصبحا صديقين مقرّبين بعد أن أسدى له خدمة، ولطالما انتقد وسيم طارق على الوقت الذي يقضيه في زيارة تلك الجمعيات التي لا تجلب لمثلهما سوى العطف والشفقة على حدّ قوله، وعلى الرغم من محاولة طارق تغيير وجهة نظر صديقه حيال هذه الجمعيات، بل جمعية الأمل على وجه الخصوص إلّا أنّه ظل مصرّاً على رأيه، حتى جاء اليوم الذي قرّرت فيه أمل إقامة يوم ودّي يقتضي مشاركة منتسبي الجمعية وذويهم وأصدقائهم لزيادة التفاعل بينهم، وهو ما استغلّه طارق لتعريف وسيم على الجمعية وأهدافها، وعندما طلب منه الحضور معه رفض ذلك بداية، لكنّه استسلم للأمر الواقع بعد إلحاح طارق الشديد عليه، فجاءت موافقته على مضض.


وفي اليوم الموعود ارتدى الصديقان أجمل ثيابهما وانطلقا إلى الحفل، وبدأا بالتفاعل مع النشاطات فيه، إلى أن جاء وقت كلمة تلقيها رئيسة الجمعية (أمل)، ولما بدأت أمل بالتحدّث على المنصة وتطرقت لموضوع حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، وحقّهم للعيش (كبقية) الناس، استفزّ كلامها وسيم فاندفع من مقعده مستنكراً: ومن قال لكِ أننا لسنا كبقية الناس يا آنسة!؟ بل نحن أفضل منكم جميعاً.

فغر الحاضرون أفواههم، واحمرّ وجه أمل خجلاً فحاولت تدارك الموضوع وإيضاح وجهة نظرها إلى نهاية الكلمة، فيما شعر وسيم بالخجل إزاء تصرّفه لا سيما بعد تقريع زميله له، وإخباره بأنّ أملاً فتاة لم يرى منها هو وغيره سوى كل دعم ومساندة، وأنّه أخطأ بفعلته وعليه الاعتذار، وبالفعل توجّه الشابان لمكتب أمل بعد انتهاء الفعالية فأبدى وسيم اعتذاره لها، فيما قبلته أمل وتخطّيا الموقف بودّ، وراحا يتبادلان أطراف الحديث بصحبة طارق.


بدأ وسيم يتردّد إلى الجمعية خلسة عن صاحبه، وفي إحدى المرّات قابله صديقه طارق هناك فقال له ضاحكاً: عجباً أراكَ هنا! ألم تكن تعارض فكرة هذه الجمعيات؟!

تلعثم وسيم وردّ بابتسامة قائلاً: هذا قبل أن أعرف أمل، وأشعر بأنّ هناك أمل، وأدار ظهره مغادراً.


أصبح وسيم يزور الجمعية بشكلٍ يومي، وفي أحد الأيام علم أنّ عيد ميلاد أمل يُصادف الأسبوع القادم عندها قام بتحضير مفاجأة لها دعا إليها جميع مرتادي الجمعية باعتبارهم أصدقاءها، ثمّ اتصل بها وأخبرها بأنه يريد ملاقاتها في أحد المقاهي فوافقت على ذلك، وعند وصولها تفاجأت بحفل كبير في المقهى وعلمت فيما بعد أنه بمناسبة ميلادها، فدُهشت وبدأت بالبكاء كونها اعتادت أن تهتم بمن حولها، ولم تشعر باهتمام أحد بها من قبل، لكنّ من حولها سرقوها من دموعها وأعادوها لأجواء الحفل وقضوا معاً وقتاً ممتعاً، فيما شكرت وسيم على لفتته تلك وعانقته فرحاً وهو ما جعل قلبه يقفز من مكانه فرحاً، اختلفت معاملة أمل مع وسيم منذ ذلك الحين، فأصبحت أكثر لطفاً رغم لطفها في السابق معه، ممّا دعاه لأنّ يفكّر في إمكانية أن تكون معجبة به، وبين أخذ وردّ، وحيرة وشك، وشوشه قلبه: ولمَ لا تكون معجبة بك، أليست هي أمل التي لا ترى فرقاً بينكم وبين أيّ فرد عادي؟ فأنتم أناس عاديون أفقدتكم بعض الظروف جزءاً من قدراتكم وحسب، حسم وسيم أمره وقرّر أن يحادث طارق ويأخذ رأيه في الموضوع، فإن استساغ الفكرة وباركها حدّث أمل في هذا الخصوص، وبالفعل أمسك وسيم بهاتفه وقام بالاتصال على طارق.

-مرحباً طارق..أريد أن آخذ رأيك في شيء ما.

-أهلا وسيم..قل ما عندك يا رجل كلّي آذان صاغية.

-تلعثم وسيم ليلاً وقال: أُريد إخبارك بشيء، إنني أشعر نحو أمل بشعور جميل جداً، أنا عندما أراها يصبح قلبي كطفلٍ صغير.

ابتسم طارق وقال: معك حق يا وسيم، فهي فتاة لطيفة وكلنا نحبها.

-لا لا لم تفهم قصدي

-ماذا تقصد إذن؟

قاطعه وسيم قائلاً:أنا أنا لربما هو الشعور بالحب يا صاحبي؟ فأنا أصبحتُ أحسُّ بالنقص بدونها.

ابتسم طارق لما سمعه رغم دهشته وقال مبتسماً: سُررت جداً لهذا، فأمل طيبة جداً وأنت تستحق فتاة مثلها.


خيبة (أمل)

في الرابع من نيسان اتصل وسيم بأمل وطلب منها المجيء فوراً إلى عنوان كان قد أرسله لها، وعند حضورها دلفت المقهى لتجد إضاءة خافتة، وطاولات مليئة بالزهور، فيما ملأت البالونات الحمراء المكان، وحشد كبير من منتسبي النادي يرسمون ابتسامة وديعة على وجوههم، فيما يتوسطهم وسيم على عكّازه، وقد أخرج من جيبه خاتم زواج مدّه إليها: أمل..أنا لم أشعر بالأمل منذ حادثتي السوداء تلك إلّا بالنظر في عينيك، وإنّي أريد أن نقضي العمر معاً، فهل تقبلين بي زوجاً وشريكاً؟

صمتت أمل لحظة وقالت له مرتبكة: لا شك أنني أعتبرُك مقرّباًً مني جداً، لكنني لم أُفكّر بك يوماً كزوج لي.

بهت وسيم من ردة فعلها غير متوقعة وقال لها بصوتٍ مرتجف: اصدقي معي، أوضعي هو السبب؟

صمتت أمل وبدأت تناظر الناس من حولها ولم تجبه، بل أدارت وجهها تاركة المكان، ومخلّفة كل شيء خلفها يذبل رويداً رويداً.

لم يستطع وسيم تمالك نفسه، فخرج مسرعاً من المكان يلملم ما تبقّى من كرامته، فيما لحق به أحد مرتادي الجمعية لاهثاً وقال له وهو يلهث: هوّن عليك يا أخي، هو ذات الموقف تعرّضتُ له منذ سنتين، فقد شعرت أنّ لطف أمل وعطفها عليّ حبّاً، وصارحتها بمشاعري وقد نسيت أنّ كون عملها يحتّم عليها ذلك لا يعني أنّها ستراني شخصاً كاملاً كما تقول، ترتبط به عمرها بطوله، هي فتاة لطيفة بحقّ لكنها......

بدأ صوت الشاب يغيب عن مسامع وسيم رويداً رويداً، فيما اغرورقت عيناه بالدموع كسحب شتوية ترفض الإهطال، وأخذ شريط الفترة التي تعرّف فيها على أمل يمرّ أمامه بتفاصيله، وما بناه من آمال لقضاء بقية الحياة بصحبتها، وفجأة فتح عينيه فرأى نفسه في غرفة واسعة ذات أثاث أبيض وشرفة واسعة، وممرضة تجسّ نبضه وتقول: لقد أفاق المريض، فيما لمح على قميصها الوردي خطّا كُتب به "مستشفى الأمان للصحة النفسية".