على قمةِ جبلٍ يُشرفُ على بحيرةٍ بجع جميلة تحتَ ظلالِ شجرةٍ مُعمرةٍ ممتدة الأغصان تتوقف سيارة، وتقولُ الأم: فلنجلس هنا، هُنا مكانٌ جميل، وبينما يُنزل الأب والأبناء متاعَ النزهة، تذهبُ رؤى بخطىً صغيرة وتقفُ عندَ المنحدرِ وتأخذ في تأمل زُرقةِ السماءِ المزدهية بالغيوم البيضاءَ، وتنظرُ بغير اهتمامٍ لسيارةٍ تختفي خلفَ الأشجار على مبعدةِ مائة متر منها، وترسلُ بصرها نحوَ البحيرةِ الجميلةِ أسفلَ المنحدر، فتَعنُ في بالها فكرة وتقول: ماما بابا سأتمشى قليلًا.


الفصل الأول

تهبطُ رؤى المنحدرَ بحذرٍ، وهي تداعبُ بأصابعها الأزهار البنفسيجةَ، وتحسسُ بيدها أروماتِ الأشجار وتصغي في نشوةٍ إلى أناشيدِ الأطيار، ومن شدة انغماسها الروحيِ في الطبيعةِ، نسيت جسدها وبدل أن ينزلَ باطن قدمها على الصخر وطِأتهُ بحافتها ففقدت توازنها وعَثرَت.


لمحَ رَفيف أثناء سيره شَعراً كَستنائياً طويلًا يطيرُ مهفهفاً ويتردى للأسفل، وصرخةً ناعمةً تندو من فَم قريب، فيتبع صاحبتهُ من فورهِ قلقاً مغمومَ البالِ، وحالما يصل إليه يمدَ يده إليها: أعطني يدكِ لأنهِضك؟.

هممم، لا بأس... حمداً للهِ على سلامتك، آمل أن لم يصبكِ أذى

تُقطبُ رؤى وجهها وتزمُ شفتيها تعبيراً عن الوجع: آه قدمي تؤلمني كثيراً

يقولُ رفيف مبهوتاً وقد ارتسمت ملامح الإشفاق على وجهه: أوه هناكَ دماءٌ على كاحلك مصدرها خدش طفيف، كيف سنعالجه؟

ويشعرُ بحيرةٍ بادئ الأمر، ثمُ يقولُ بلهفة: آه وجدتها، ويُنزلُ لفحتهُ عن رقبتهِ، ويلفها على قَدمها ويجلسُ إلى جانبها فوقَ الصخرة.

تخاطبه رؤى بنفس صادقة وقلب ممتن: شُكرًا لمساعدتك، في الحقيقةِ لم أتوقع حدوث هذا معي، أوه كم أنا محرجة!.

يجيبها رفيف بحنانٍ ولطف: ما هذا الذي تقولينه! تحدثُ مثل هذه الأمور مع كل الناس.

وبينما هو يتأمل البحيرة تختلسُ رؤى النظر إليهِ، فيحمرُ وجهها خَجلاً وتبتسم لامتلائها دونَ إرادتها بمشاعرِ الإعجابِ نحو رفيف.

يتنهدُ هو ويقول: ما أجملَ هذهِ اللوحة التي خطتها يدُ الإلهِ أمامنا يا... بالمناسبةِ، ما اسمك؟

رؤى، وأنت؟

ينظرُ في بريق عينيها الواسعتين ويقول: أنا رَفيف

ممم اسمك جميل، وتبادلهُ نظرتهُ البريئة نفسها وعلى شفتيهما ترتسمُ ابتسامة عذبة، وقد أخذَ قَلبهما يخفقُ كما لم يسبق له ذلك من قبل.

يتجرأ رفيف وينهضُ ليلتقطَ زهرةً بنفسجيةً، ليقدمها لرؤى، وتسمعه يكلم نفسه: اللعنة كدتُ أن أتعثرَ لفرط انفعالي، فتكتم ضحكتها قبل أن يجلسُ من جديدٍ إلى جانبها، وينظر إليها ويقول: أتقبلينها مني؟.

فتأخذها على استحياء، وتداعبها بأصابعها، فيهمهم رفيف ويقول: خطرت لي فكرة... أعتقدُ أنّ هذه الزهرة ستكونُ أجمل لو وضعت على رأسك.

فيلتقطها رفيف من أصابعها ويَشْكّها في شعرها، ثم يقول بعد أن يتأمل وجهها: كما تخيلت، في غاية الروعة.

تنظرُ رؤى إليهِ وهي تضحك وقلبها يكادُ يطيرُ من السعادةِ، وتقول: أنت تُخجلني، ألن تكفَ!

يخاطبها رفيف باهتمام: انظري إلى تلكَ البجعةِ التي تضعُ السمكَ الصغير في فمِ أفراخها يا لهُ من مشهدٍ ساحر!

تشاهدهم رؤى وتقول وقد سلب المنظر لبها: رباه ما أجملهم وأحلاهم!.

ثم تشيرُ رؤى بسبابتها إلى ركنٍ من البحيرةِ، وتقولُ بينما تهبُ نسمةٌ رطبةٌ تداعبُ ظفائر شعرها: هناكَ بعجتانِ أعتقد أنهما تحبان بعضهما.

نعم، انظري.. انظري كيفَ يُسرّحُ كل واحدٍ منهما ريشَ الآخر بمنقاره.

هاهاها كَم هما لطيفان ليتنا نمتلك جناحين مثلهما.

هل تعرفينَ بماذا يُذكرني هذا المشهد يا رؤى؟

تقول رؤى باهتمام: بماذا يا ترى

بسيمفونية بحيرةِ البجعِ لتشايكوفسكي

ممم، لم يسبق لي وأن سمعتها.

فيخرجُ رفيف هاتفهُ، ويقومُ بتشغيلها لتحمِلهُما أنغامها العذبةُ إلى فضاءاتٍ أرحبَ وأَكثر اتساعًا، وتزيدَ من حرارةِ عواطفهما النبيلة، فتلمسُ رؤى بأصابعها أصابعَ رفيف، ويمسكُ رفيف بدورهِ يدها، ويظلانِ هكذا حتى نهايةِ السيمفونية.


الفصل الثاني

تقول رؤى والحسرة بادية في ملامحها: أظنُ أني تأخرت، سيقلقُ والديَّ عَلَي.

هممم، وأنا أيضاً.

أريد القول بأني لم أشهد سعادةً كالتي شهدتُها الآن بينما أنا إلى جانبك.

شُكرًا لك، وأنا أيضًا سُعدتُ للغاية بقضاء الوقت معك هنا بين أحضان الطبيعة على أنغام الموسيقى.

هل تستطيعين السير؟.

سأحاول.


عندئذ تقفُ رؤى وتحاول المشي على قدميها، فلا تستطيع، فيقتربُ رفيف منها وهو يقول: التوى كاحلكِ، ولن تستطيعي السير بدونِ مساعدة.

تبتسم رؤى ابتسامتها الجميلة كاشفة أسنانها البيضاء: لكنني أثقلتُ عليك و....

فيقاطعها رفيف بنفاد صبر: لا تقولي ذلكَ أبداً، وإني لأسعدُ بمساعدتك.

فتتكئُ عليهِ رؤى لكنهُ يباغِتُها من حيثُ لا تعلم، فيضعُ يدًا تحتَ قدميها ويدًا خلفَ ظهرها ويَحملُها، تتفاجأُ رؤى مما فعلهُ وتضحكُ مِلء فمها وهي تحركُ ساقيها قائلةً: لا لا لم نتفق على هذا، لقد ضحكتَ علي..أنزلني هيا أنزلني.

-كلّا كلّا لن أفعل، فأنت عاجزةٌ عن السيرِ وقدِ تتعثرينَ مجدداً.

فتقولُ بنبرةٍ طفوليةٍ: بلى بلى أستطيع بلى.

وعندما قطعَ رفيف ثلاثة أرباع المسافة، قالت رؤى: لقد شارفنا على نهاية المنحدر، وسَنصير على مرمى بَصرِ والِدَي، أنزلني هنا يا رفيف أرجوك.

يقول رفيف لاهثاً: أْوبَاه... آه يا ظهري، لقد كسرتِه.

فتضحك رؤى بعذوبة وتقول: لم أقل لكَ أن تحملني.

ششش.. أسمعُ صوتَ أبيك.

نعم هو.

فيقتربُ رفيف من رؤى ويهمسُ: سأتعرَفُ إليهِ وأعَرِّفهُ بنفسي، وأقول لهُ أني أرغب ببقائكِ إلى جانبي طوال حياتي، وأنه قد يتاحُ لي خِطبتكِ في غضون أشهر قليلة.

فتسعد رؤى بذلك، وتعترفُ له بأن هذه رغبتها أيضًا، فيمسكُ رفيف يديها ويقربهما إلى شفتيهِ ويقبلهما بلياقةِ أميرٍ أرستقراطي، فتخفضُ رؤى رأسها خجلى وقد افترت شفتيها عن ابتسامة خفيفة.

والآن هيا

يضع رفيف كفه في كَفها ويشدُ عليه بينما هم يتبادلان النظرات، ويسندها بيده الأخرى، ويسيران إلى جانب بعضهما ويعبران المنحدر.


الفصل الثالث

وبينما هما يمشيان يرمق رفيف من بعيد سيارة فارهةً تبدو باهظة الثمن، بالإضافة إلى خادم يتحرك في خدمةِ والديها، فيضطرب الفتى صاحب الدراجة البسيطة لرؤية مظاهر الثراء هذه، ويلمح الأب والأم ابنتهما تعرج، فيسرعان نحوها وأمارات الخوف والقلق بادية على وجهيهما.

الأم: ماذا جرى لك يا حبيبتي؟.

الأب: خير يا ابنتي ماذا حل بك؟.

فتجيبهم رؤى: اطمئنّا، لقد تعثرت وسقطت وقد ساعدني هذا الشاب الشهم.

فيقول رفيف ذاهلًا مُتلعثمًا وهوَ يشعر بالإهانةِ، وقد أدرك انهيار أحلامه الشعرية رفقة رؤى: في الحقيقة، أنا اسمي رفيف كنت أتجول وقد شاهدتُ ابنتكما تسقط فلم أستطع إلّا مساعدتها، والآن أنا مضطرٌ للذهاب، فوالديَّ ينتظرانني على الغداء، فرصة سعيدة.

تلتفتُ رؤى إليه بدهشةٍ واستغراب، وقبل أن تتلفظ بأي كلمة يدير رفيف ظهره راحلاً بعد أن رمق رؤى بنظرة كانت هي نظرة الوداع الأبديّة.