الرهان

دخلت راما وهي طالبةٌ جامعيةٌ في سنتها الثالثة حرمَ الجامعةِ بدايةَ الفصل الدراسي الجامعي، وراحت تَرقب في شغفِ المُشتاق مباني الجامعة وأشجار النخيل والسرو التي تسمقُ في ممراتها وطرقها، وعندَ وصولها كُلية العلوم أخرجت هاتفها لترى جدولها الدراسي وتعرف أي كليةٍ عليها أن تذهب ابتداءً وأي قاعةٍ فيها تسلك، فقرأت: كلية الآداب، رمز القاعةِ A3، فأعادت هاتفها إلى الحقيبةِ ومضت نحوَ الكُليّة.


وقفت راما في كُليةِ الآداب قبالةَ باب القاعةِ التي ستنعقد فيها مُحاضرتها، ونظرت إلى الساعةِ في يدها وعرفت أنهُ لم يزل على بدئها رُبع ساعة، فراحت تتمشّى في الدهليزِ وهي تُفكّرُ في الكيفيةِ التي سيسير فيها يومها في الجامعة، وبينما هي واجمةٌ مفكرة سمعت صوتاً ينبعث من الحقيبة، ففتحتها ورأت على شاشة الهاتف: "my love" يتصل بك.

فتناست على الفورِ هموم يومها، وأشرقَ وجهها وانفرجت أساريرها، وفتَحتِ الخطَ فبادرها حبيبها قائلاً: طِبتِ صباحاً يا حبيبتي!.

فقالت راما: طِبتَ صباحاً حبيبي.

وسألها: ذهبتِ للجامعةِ أم تكاسلتِ عن الذهاب؟.

أجابت راما: نعم وهَأنذا أقفُ وحيدةً في كُليةِ الآداب أنتظرُ انطلاق المحاضرةِ الأولى.

قال حُسين وقد تجلى السُرور في صوته: هذا يعني أنني تذكرتكِ في الوقتِ المناسب كَيّما أُسلّيكِ ريثما تبدأ!.

قالت راما وقد ندت من فمها ضحكة صغيرة: أجل حبيبي.

وداعبها حسين بالقول: هل تلبسين في أُصبعك خاتم الخطوبة؟ إياكِ ونسيانهُ حتى لا يفكرَ أحدٌ ما في الاقتراب منكِ أو تتبعك؟.

ضحكت راما ورفعت يدها قريباً من رأسها وأخذ تتحسس الخاتم بإبهامها وقالت: نعم حبيبي ألبسهُ في يدي، ولتعلم أنني مستعدة لنسيان أي شيءٍ عدا هذا الخاتم الذي يذكرني بك، ويربطني فيك.

ابتسم حينها حسين الذي يعملُ كأستاذٍ للغة العربية، وقال: لا تُبالغي يا حبيبتي، صحيح أنّ الخاتم مهم، لكن ليس إلى حد أنهُ يربطنا معاً، لأننا مرتبطانَ قلبياً ووجدانياً وليسَ الخاتم إلا رمزاً لهذا الارتباط.

فابتسمت راما خجلاً وقالت: لا أجدُ ما أقولهُ إلا أنني أُحبك، فأنا لستُ مثَقَّفةً مثلك.

وأضافت: هل ستزورنا اليوم؟.

قال حسين: إذا صنعتِ لي طعاماً لذيذاً فسآتي لا محالة.

فضحكت راما وأردفت: صحيحٌ أنني لستُ مثقفةً لكنني لستُ غبية أيضاً ولدي القدرةُ على التمييز والملاحظة! لن تجيء من أجلِ رؤيتي ها وإنما للاتهام الطعام!.

وضحكَ حسين ملء شدقيهِ وقال: ها ها ها ها، يا لكِ من عِفريتة، أُحبكِ كثيراً يا راما!.

وحين دقّت الساعة التاسعة، فقالت لحسين: يجبُ عليَّ الدخول للقاعة، إلى اللقاء حبيبي.

سأنزل عندكم ضيفاً الليلة، إلى اللقاء.


دخلت راما قاعة المحاضرات وجلست بجانب إحدى الفتيات وسألتها بعد أن حَيّتها: ما اسم مُدرّسِ هذا المَساق؟.

فقالت زميلتها: طهَ عبد الرازق.

وأضافت راما: هل هُوَ جيّد؟.

فأجابتها قائلة: أجل سُمعته الأكاديمية ممتازة، يمكنني سؤالك عن اسمك؟.

فردت عليها: بكل تأكيد أنا اسمي راما، وأدرس في كلية الهندسة، ماذا عنك؟.

فأجابت زميلتها: اسمي رغد، وأدرس في كليةِ الاقتصاد، فيما وقع بصر رغد على خاتم الخطوبة في يدها، فراحت تسألها بفضول كبير: منذُ متى وأنتِ مخطوبة؟.

فقالت راما: منذ أسبوعٍ تقريباً.

وراحت رغد تتطلعُ إليها بعينين تفيضان حماسةً هي حماسةُ الحصيف الخبير وتقول: كُنتما تحبان بعضكما من قبل؟.

هممم تَعرفتهُ قبل الخطبةِ بشهرٍ تقريباً، ورغم ضآلةِ المدة إلا أننا أحببنا بعضنا البعض.

وفجأةً وقفَ طالبٌ عند باب القاعة وقال للحضور جملةً: المُدرّس يعتذرُ عن الحضور، ومضى.

فقالت رغد مُبتهجةً: هذا أروعُ ما يمكن سماعه، لديكِ ما يشغلك؟.

لا لا شيءَ عندي حتى انتصاف النهار.

-إذن فلنترافق؟.

-حسناً.

ولمّا خرجتا من القاعة نزلتا إلى باحةِ الكُليّة واشترت رغد كوبين من القهوة، وجلستا فوق مقعدٍ فيها، رشفت رغد من كوبها وقالت: لقد مررتُ بتجربتين فاشلتين من قبل، إذ لمّا أوهماني بحبهما الخالص وأنشدا لي أنشودة الغرام عقدتُ العزم على امتحانِ هذا الحب أصادقٌ هوَ أم هشٌ ينهارُ لأبسط الأمور.

جذبَ الحديث راما التي عقدت حاجبيها وهي ممسكةٌ كوب القهوة بكلتا يديها، فقاطعت رغد لتقول: نعم وماذا جرى بعد ذلك؟.

-فعلاً أنفذت ما عقدتُ العزم عليه لأمتحن قلبهما، ولأرى أهما جديران بي أم لا.

-كيف اختبرتِ حبهما؟.

-هممم قُلتُ لصديقةٍ لي أن تُراسلهما وتواعدهما فهما إذا كانا يُحبانني حقاً كانا سيصرفانها، أمّا هما فقد حاولا أن يمضيا معها إلى آخر الطريق! وهذا برأيي كفيلٌ بكشف حقيقة عاطفتهما نحوي.

دُهشت راما لدى سماعها ذلك، وقالت: يا لكِ من ماكرة!. ورفعت كوب القهوةِ ورشفت منه.

فنظرت إليها رغد باستغرابٍ وقالت: أجل، همممم ألن تَفعلي مثلي؟.

نظرت راما إليها وقالت: أفعل ماذا؟.

-همممم تمتحنينه!.

ضحكت راما وأردفت: لستُ في حاجةٍ إلى فعل مثل هذا مع حبيبي.

عندئذ كزت رغد على أسنانها وقالت ملحةً على صاحبتها: كُلُّ الرجال سواء، ابقِ في دِفِ إيمانكِ الساذج به!.

وقطّبت راما جبينها ولبثت لحظةً تُفكر في كلام زميلتها وقالت أخيراً: هممم سأجرّب ذلك معه ما دامَ أنني متأكدٌ من عاطفة حبيبي نحوي!.

فابتسمت رغد وقالت: آملُ أن يصدق ظنك فيه، رغم أنني متأكدٌ من النتيجة!.

-ولكن كيف ومن أين أبدأ في الشروع فيها؟.

قالت رغد مندفعةً: أعطني رقمكِ ورقمه، وفي حضوركِ أحاولُ مهاتفته، فإذا خاطبني بصيغة المذكر فاعلمي على أقل تقديرٍ أنهُ لعوب!.

-على أيةِ حال سيزورنا في المساء، وحتى ذلك الحين أُهاتفك أنا لأعطيك شارة الانطلاق.

-موافقةٌ يا راما، لكنني لا أُحب أن تُصدمي فيه، لذلك أنصحكِ منذ الآن بأن لا تكوني متفائلةً كثيراً! ولكن إذا كسبت أنا الرهان فما أنتِ فاعلة؟.

-هممم سؤالٌ صعب رُبما أغفر لهُ وربما أتر....

-لماذا لم تكملي الكلمة؟ ألهذه الدرجة أنت متعلقةٌ فيه؟.

وأخرجت الفتاتان هاتفيهما وحفظتا عليه أرقام بعضهما، وانصرفت كل واحدةٍ منهن إلى كُليّتها.


في المساء بينما كانت راما رفقة أمها في المطبخ يضعن اللمساتِ الأخيرةِ لطعام العشاء، دَقَّ جرسُ الباب، فأخرجَت راما هاتفها من جيبها واتصلت برغد وقالت لها: بعد دقيقتين اتصلي به، ومضت نحو الباب وفتحتهُ ورحبت به قائلةً: أهلاً حُسين! فانحنى حسين إليها وعانقها قائلاً: اشتقتُ لك كثيراً، فيما رنَ حينذاك هاتفهُ، فأخرجهُ من جيبهِ وقال بعدما نظر إلى الشاشة: لمن هذا الرقم!، واستجاب للمكالمةِ فأخذت راما بقلب وجلٍ تسترق السمع لكلامه فسمعته يقول: عيبٌ يا آنسة أن تصدرَ مثل هذه السلوكات مع امرئ يقفُ في حضرةِ معبودته وملاكه، وأغلق الخط.


فابتسمت راما، وازدادت ابتسامتها عُرضاً عندما قرأت رسالةً وصلت للتو من رغد تقول: كسبتِ الرِهان.