عودة ميت

كانَ لوفاةِ زوجتهِ نَهلةَ الأليم، وقعٌ قويٌ في نفسهِ وقد طفا في ذهنِهِ منذ ذلك الحين سؤالٌ واحدٌ فقط ألا وهو: كيفَ يُمكنني استعادة حبيبتي الميتة من جديد؟.


الفصل الأول

كان قُصي وهوَ شابٌ متوسط الحال يعيشُ علاقةَ حبٍ لا مثيلَ لها مع صاحبةِ الصونِ والعفاف نتالي ابنةُ تاجرِ الذهبِ الكبير والمعروف، وامتدت هذه العلاقة قرابةَ السَنةِ، وفي الأسابيعِ الأخيرةِ التي سبقت انفصالهما بدأَ قصي يلحظُ انقلاباً في عواطفِ نتالي نحوهُ تطورت فيما بعد لانقطاعٍ طويلٍ عن التواصل من جانبها، حاول قصيٌ جاهداً أن يعرفَ الأسباب التي جعلها تنحو هذا المنحى المسرفِ في القسوةِ الممعنِ في الشطط لكن دون جدوى، فهي لم تردَ على خطاباتهِ التي كان يُمطرها بها بشكل شبه يومي، وفي النهايةِ وصلهُ خطابٌ منها مكونٌ من كلماتٍ قليلةٍ لم تشفِ له علةً ولا نقعت له غُلّة، وجاء فيه:

"في القريبِ العاجل سأصبحُ على ذمةِ رجلٍ ثريٍ يشغلُ منصباً سياسياً مهماً، وأنت برسائلكَ هذه تُسيءُ إلى شرفِ امرأةٍ محترمةٍ لها سُمعتها ومكانتها في المجتمع، أرجو أن تكفَ عن ذلكَ وإلا اتخذت في حقك إجراءً قاسياً".

دخل قصي بعد هذا الإيضاح من جانبها في حالةِ اكتئاب، إذ كانَ يقضي أغلب وقتهِ في غرفتهِ واجماً مغموماً مكروباً يُفكرُ طيلةَ الوقت في هذا: لم أكن إلا دميةً تلهو بها؟ لم يكن قلبي التي عبثت به بمخالبها الحادة إلا أداةً للتسلية!.


الفصل الثاني

حاولت أُسرة قصي إخراجهُ من سوداويتهِ، وإحداث التبدل في مزاجهِ المغرقِ في ديجور الظُلمة، ولم تجد حلاً أفضلَ لنسيانه نتالي من تزويجهِ امرأةً من طينتهم ومستواهم الاجتماعي، وبعدَ المشاورةِ والمداولة وقعتِ الخيرةُ على ابنةِ خالتهِ ورفيقةَ طفولتهِ نَهلة، لا سيما أنّ نهلة كانت متعلقة به منذ نعومة أظفارها عندما كانوا يلهونَ معاً في السهول، ولمّا كانت زميلةً له في المدرسة حيث أنهما مُدرّسان كانت نظراتها إليه على الدوام تنسج أروع قصائد الحُب والغزل، لكنّها لم تفصح له عن هذا الحب في يوم من الأيام.

وبعد إلحاح من طرفهم رضخ قصي لضغوطات أسرته وتمَّ الزواج أخيراً، وعاشا معاً تحت سقفٍ واحد حياةً خلاف ما توقعته نهلة التي كان طبعها لحسن الحظ يتسم بالهدوء والصمت اللذين لولاهما لما استطاعت احتمال نفس قصي التي اعتلّت بعد علاقته الأخيرة، لا سيمّا وأنه تصوّرَ ولا أحد يدري لماذا أنّ نهلة كانت السبب في ابتعاد نتالي عنه، وهو لذلك أمعنَ كثيراً في إيذائها وتمادى في غيّهِ معها إذ كان يتعصب عليها ويعنفها لأتفه الأسبابِ وأيسرها، ومن جهتها فقد كانت تقابل غلظته وهيجانه وسلوكه العدواني بالصمت، وأحياناً باللوذِ إلى تهدئته على الرغم من علمها بأن أسباب انفعاله واهيةٌ لا صحةَ لها، وعندما توفيَ أبوها الذي كان آخر ما بقي لها في هذه الحياة، ازداد تعلق نهلة بزوجها واجتهدت كي تنالَ حظوتهُ وعاطفتها رغم كل شيء، لكن ذلك لم يزد قصي الذي كان يفكر قبل وقوع هذه الوفاة في تطليقها إلا قسوةً ووحشية فهو الآن أصبح يمدُ يده ويضربها دون أدنى شفقة سيّما عندما أدرك أنهُ أصبحَ ملجأها الوحيد.


الفصل الثالث

وذات يومٍ كانت ذكرى زفافهم السنوية فقررت نهلة أن تُحضر معها قالباً من الحلوى وحملتهُ في المساء وسارت نحو قصي الذي كان يجلسُ في الصالون، وعندما اقتربت وجدتهُ يحدث شخصاً عبر الهاتف، فتوقفت مواربةً وأصاخت سمعها: أنتِ يا نتالي؟ تهاتفينني بعد كل هذه المدة؟ ماذا تقولين كففت عن حب زوجك! وأنا أيضاً أحبك وسعيدٌ بمكالمتك يا حبيبتي، غداً في نفس مشربِ القهوة عند الساعة الثالثة عصراً، موافقة؟.

عندما سمعت نهلة ذلك أوقعت قالب الحلوى من يدها واتجهت نحو غرفة النوم وهي تنشجُ وتبكي بكاءً موجعاً، ولمّا سمع قصي صوت الجلبة أغلق الهاتف وأسرع نحوَ نهلة الغارقة بدموعها حتى أدركها، وبعد أن نعتها بأفظع النعوت لأنها تتجسس عليه، قال: سأتزوج من هذه البنت التي أحبها ولتعلمي أني لم أحببك في يومٍ من الأيام، وأن محاولاتك للتقرب مني وكسب ودي لن تفلح في استمالة قلبي، فما أنت بالنسبةِ لي إلا متسولة لا أشعر نحوها إلا بالشفقة والاشمئزاز.

وحينما سمعت ذلك منهُ أخذت تنحبُ وتئن دون أن تتفوه بكلمة وكانتِ المرة الأولى التي يشاهد فيها قصي دمعها يجري مدراراً على خديها فرّق قلبه نحوها، وقبل أن يضعف انسحبَ على الفور.


الفصل الرابع

عند الساعة العاشرةِ مساءً رن هاتف قصي ولمّا نظر إلى الشاشة وشاهد رقم نتالي اغتبط وردّ على المكالمة، فقالت نتالي دون تمهيد: أنا أعتذرُ يا قصي كل الحكاية أنني أردتُ أن أغيظ زوجي لكي يقبلَ أن يصطحبني في رحلةٍ إلى مدينةِ باريس، وقد وافق والفضل يعود لك، وأغلقت الخط.

شعر قصي بحنقٍ كبير وغيظٍ شديد، وشتمَ نتالي مراراً كثيرةً، وتذكر شريط حياته المقيت في الآونة الأخيرة بسبب امرأةٍ لعوبٍ مثل هذه، وتذكر نهلة التي تحبهُ وتحترمه والتي احتملت إنساناً بغيضاً مثله لم يتوانَ خلال هذه المدة عن تعذيبها وإهانتها، فأخذَ في البكاء لزهدهِ فيها مع أنهُ متأكدٌ من أن سعادته لن تكون إلا معها، ويروح يحدث نفسهُ قائلاً: لا بدَّ أن أدخلَ إليها وأعانقها وأن أبكي على صدرها مثل طفل، أنا متأكدٌ من أن قلبها الكبير سيسامحني، وسأعدها بأنني سأُبعثُ بعثاً جديداً ابتداءً من هذه الساعة".

وينهضُ دون أن يمسح دموعه عن وجهه واهناً مثلوماً في كرامته مطعوناً في كبريائه، ويجرُّ ساقيهِ متجهاً نحو نهلة التي لم تفارقهُ صورة عينيها المدمعتين، وعندما وصل باب الغرفة طرقهُ مرةً وقال: أنا أعتذر بشدة يا نهلة، يا حبيبتي وعزيزتي منذ هذه اللحظة، هل لي بالدخول؟ أعدك يا حبيبتي أن أتغير تغيراً شاملاً، وأن نعيش بسعادة منذ الآن، آلمه صمتها وزاد جرحه عمقاً، وفتح الباب في هدوءٍ فصُعقَ وذهل عن نفسه لدى مشاهدتهِ جسدها مُرتخياً عند نهاية السرير بينما يشدُ حبلُ القفزِ المعقود في الثُريا رقبتها بإحكام، فيصرخ بجنونٍ وهو يهجم ليفكّ رقبتها منه: نهلة يا حبيبتي لقد أتيتُ لأصلح كل شيء يا حمقاء لماذا تسرعتِ وقررت الذهاب في اللحظة التي رغبتك فيها!. وبعد أن أفكها بصعوبةٍ حضنها وأخذ يهزها وهو يبكي بحرقةٍ ومرارة بينما يقول: عودي لي يا نهلة عودي لماذا تركتني قبل أن أصلح الأمور عودي أرجوك.


الفصل الخامس

إذا كانت نفس قصي شاهت قيراطاً بعد الحادثة الأولى فإن نفسهُ قد شاهت قيراطين بعد وفاة زوجتهِ الأليم، وقد بلغَ به انحراف السلوك وشذوذ الفكرِ حد أنهُ عزمَ أمرهُ على استعادة نهلة من العالم الآخر مهما كانت الوسيلة، وذلك ليقدم اعتذراه إليها وكي يتأكد من أنها صفحت عنه، وهو لذلك مكث طوال شهور في القراءة والبحث في كتب السحر والشعوذة وأمور العالم السفلي.

وقد شوهدَ مؤخراً يُفرغُ صالونهُ من الأثاث والسجاد والزينة، ويرسم على الأرضيةِ نجمةً خماسية، ويأخذُ في ملءِ أضلاعها بالطلاسم التي أخذ منهُ جمعها من بطون الكتب شهوراً وأياما، وكانت الخطوة الأخيرة بحسبِ ما جاء في الكتاب هو إحضار جثة طفلة ووضعِها في منتصف النجمة، وقد سعى قصي طويلاً وبذل جهداً ممضاً حتى استطاع الحصول على جثة طفلةٍ ميتةٍ فقد لجأَ للظفر بها أن يذهب للمدينةِ المجاورة وبعد شد وجذبٍ مع حارس المقبرة اتفقَ أن ينقدهُ خمسمئة دينار على أن يحفرَ قبرَ طفلة جيء بها قبل أسبوعين.


النهاية

حملَ قصي الجثةَ المتفسخة التي في طور التحللِ ورائحتها الشنيعةُ تملأُ أنفهُ وسائر أركان الصالون مقاوماً شعوره بالاشمئزاز والتقزز معزياً نفسه باقتراب لحظة عودة نهلة وانتهاء معاناتهِ في استرجاعها، ووضعها في منتصف النجمة ودَهنها بدهنِ الخنزير، ثم أشعل عود ثقابٍ وألقاهُ فوق الجثة فاتقدت آخذةً ألسنة اللعب بالتراقص تحت سقف الغرفة، ويشرعُ في ترديد اسمها واسم أُمها مراراً وتكراراً، وتضطرم النيران وتتلظى وترتفع ألسنة اللهب عالياً حتى تقترب من سقف الغرفة، ومن بينِ النيران تتشكل صورةُ نهلة كأنها تتخلق من جديد وتظهر أخيراً في نفس هيئتها، وتبدأ النيرانُ في التراجعِ شيئاً فشيئاً تاركةً نهلةَ التي كانت مغمضةَ العينين مسبلةَ الجفنين، ولما خمدت النار من حولها فتحت نهلةُ عينيها وحرّكت شفتيها قائلة: لقد عدتُ لأنك صرت جديراً بي.


-تمت-