رسالة

في الوقتِ الَذي نَزلَ فيه أمين طالبُ الثانويةِ من حافلتهِ التي تُقِلّهِ من مدرستهِ، وجدَ على الأرضية عند الموقفِ أمامَ منزلهِ رسالةً مختومةً، تَعجّب كثيرا عند رؤيتها، فأحنى جذعهُ والتقطها وقلّبها بيده وما كانت شديدة دهشته عندما وجد اسمهُ عليها، دَسّها بعجالة في حقيبتهِ بين الكتب ومضى يدلف المنزل.


الفصل الأول

هتفَ صوتٌ من المطبخ: أمين، بدّل ملابسكَ بِسرعةٍ واغسل يدك جيداً وتعالَ لتتناول طعام الغداء، أخوكَ تناول طعامه مبكراً اليوم. أجاب أمين وهو ساهمٌ: حاضر أمي.

جلسَ إلى المائدةِ وقدمت أمه له طبقَ الأرزِ مع الدجاج وسلطة الخضار، وراحت تسألهُ بعينين مستطلعتين عن سيرِ دروسه: كيف سار يومكَ المدرسي؟.

لكن ذهنَ أمين الذي كان غارقاً في موضوع الرسالة، جعلهُ يسألها لتكرار السؤال: نعم؟.

فقالت أمهُ بحنقٍ: قلت كيف سارت دورسك؟.

آه آه على خيرِ ما يرامٍ يا أمي.

متى تبدأ الامتحانات النهائية؟.

بداية الشهر المقبل.

إذن فلتشد من أزرك لترفع رأس أبوك وأمك.

حاضر أمي، الحمد لله لقد شبعت. قال أمين ذلك ووثب عن كرسيه إلى صنبور الماء ليغسل يديه.

ليس هذا أكلك؟ أكمل نصفَ الطبق على الأقل!.

"لقد شبعت، أكلتُ شطيرةً في المدرسة" قال ذلك وركض باتجاه غرفته.


ألقى حقيبتهُ التي كانت على الطاولة فوق السرير وجلس إلى جانبها وأخذ يفتحُها بعجالةٍ، مدّ يدهُ في جوفها وراح يُفتشُ عن الرسالةِ بنفاد صبرٍ حتى وجدها.

وبعد أن عاينها ببصرهِ وشَمّ رائحةَ العطر الجميلة التي تنبعث منها بدأَ في فَضِّ غلافها، وأخرج رسالةً مطويةً بعناية كانت بداخله، فتحها وقرأ: "أمين يا أوسمَ فتىً في المدرسة الثانوية للأولاد على الإطلاق لقد حاولتُ مراراً أن ألفتَ نظرك إليَّ دون خطابات، ولمّا فَشلتُ في ذلكَ لأَدبكَ الذي يمنعكَ من النظر إلى وجوهُ الفتيات قلتُ لنفسي ليس لي من سبيل آخر سوى أن أكتب خطاباً إليه ألفت به نظره إلى أنّ هناك فتاةً طاهرةً بريئة سُرق منها قلبها، ووقعت من دون قصدٍ في الحُب، أمين سأخرجُ اليومَ بعد المغربِ لأتنزهَ في الحديقة، انتظرني أنا البنتُ التي أضناها حُبّكَ عندِ النافورةِ الكبيرة ما بين الساعة السابعةِ إلى الثامنة".


الفصل الثاني

اضطربَ أمين واحتقن الدَمُ في وجههِ وراح قلبهُ يدقُ في عنف وقال يُحدثُ نفسه: ماذا! فتاةٌ تُحبني أنا هذا الحب القوي كله! أيكون من هم مثلي جديرين بمثل هذا الحُب رَباه! أنا ضائع ولا أدري ماذا أفعل، ثُمّ من تكونُ هذه البنت من بنات جيراننا؟ عبلة هممم آمل أن لا تكون هي، إنّها ثرثارة وأنا لا أحبّ الثرثارات، منيرة لا هذه غليظة، أم تُراها عالية؟ أم أمل؟ أُوه ما كل هذا التشتت الذي أنا فيه!. وبدافعٍ خوفه قال: رُبما علي أخيراً أن أنسى أمرَ الرسالةِ والتفت لدراستي فهي خيرٌ وأبقى، وأخرج كتاب العلوم الحياتية وأخذ يُقلّبُ فيه محاولًا القراءة، وبعد دقائق وضعه جانباً وقال بعد أن استبدّ به القَلق: اللعنة ألا يُمكنني السيطرة على تفكيري في هذه المسألة؟ وأخرج الرسالة من جديد وقَرَّبها من أنفهِ وشَمّ عبيرها، وقال: آه ما أزكى هذه الرائحة! هل أنا جادٌ في عدمِ أخذها على محمل الجد؟ ألا ما أغباني عندما أزهدُ في مثل هذا الأمر! إذا كان لدي المقدرة على تبادل هذه العاطفةِ الجميلة عاطفة الحب وما يتأتى عنها من سلوكيات كالاهتمامِ مع أحد من الجنس الآخر فلماذا لا أفعل؟


هممم في اللحظة التي يتمنى فيها أقراني لحظةً كهذه، أجلسُ أنا ممدداً ساقيّ على سريري أتعذبُ بمشاعري المتناقضة.

وتنهد أمين ووضع يده على جبينه: أوف! ما لي أتصببُ عرقاً ألا ما أجبنني إذ تفعل رسالةٌ صغيرةٌ كل هذا بي!.


وفجأةً ارتسمت ابتسامةٌ على شفتيهِ، وأشرقَ مُحياه الذي كان عابسًا قبيل لحظات لأنَ فكرةً جديدةً لاحت له: حسنًا سأذهب، وليحدث ما يحدث، لكن في البدايةِ عليَّ الاستحمام لأن مناسبةً غراميةً كهذه تُحتّم على الإنسانِ أن يكون في قمةِ نظافتهِ، ونهضَ حاملًا مِنشفتهُ صوب الحَمّام.


رمقَ عمر أخاهُ يلجُ الحَمامَ مُسرعاً وعلى كتفه المنشفة، فسألَ أمهُ باستغرابٍ: قالَ أمين أنه دخل ليدرس فما لهُ فجأةً يدخلُ ليستحم!.

رُبما لعبَ اليوم كرةَ قدم في المدرسة الأمر الذي جعله يتعرّق، وهو مهووس بالنظافة.

همممم رُبما.

ألم ترهُ اليومَ في المدرسة؟.

رأيتُهُ في الفُسحة وجلسنا سويةً ريثما انتهت.

وخرجَ أمين مُتلفعاً منشفته نحو غرفته، فقالت له أمه لما شاهدته: حَمام الهنا يا بني، ألعبت كرة القدم اليوم؟ فقال لا وأغلق باب غرفته.


الفصل الثالث

وَقفَ أمين أمام مرآتهِ آخذاً في تأملِ وجهه: حقًا إنني أملك وجهاً وسيماً، ومن غير العجب أَن يُحدث مثل هذا التأثير في قلوب الفتيات، وأمسك المشط وأخذ يمشط شعره المبلل ويحرك رأسهُ ببطء وإمعانٍ يمنة ويسرة ليرى تفاصيل وجههِ أجميلةٌ هي أم قبيحة لكنهُ سُر مما رآه، فامتلأت نفسهُ ثقةً مزهوة.


نظر إلى الساعةِ فوجدها السادسة إلا ربع، فقال: لم يتبقَ الكثير ولم أعرف بعد ما ألبسهُ لهذه المناسبة، فاتجهَ نحو خزانتهِ وبدأ يقلبُ في ثيابهِ المعلقة: هممم ترى ماذا ألبس، حقاً إنّ تعدد الخيارات يوقعُ المرء في حيرة عظيمة! أألبس البدلةَ التي ارتديتها في حفل زفاف ابن عمي؟ لكن مظهري سيكون مضحكا بكل تأكيد لا لا أظن أن أليقَ شيءٍ هو ارتداء بنطالٍ رسميٍ وقميص، أوه القميص مجعدٌ وبحاجةٍ إلى كَي! هل أقول لأمي أن تكويه، لكنها ستحقق معي ولستُ أملك رفاهية الوقت، ومن غير الحشمة والظرف أن أجعلها تنتظرني لا بل أن من واجبي أن أسبقها إلى هناك، فألقى القميص من يدهِ وأمسك بلوزةً وقربها من البنطال وقال: هذه مناسبة، مناسبةٌ تماماً.

وما إن انتهى أمين من ارتداء ثيابهِ، وتمشيط شعره، وإغراق نفسه بشذى العطر حتى حملَ حذاءهُ المُلمّع وخرج من غرفتهِ وهو يتمنى أن تكون والدتهُ في غرفتها كي يُعفى من التحقيق التي ستجريه معه، ولحسن حظهِ أن الرياحَ جرت بما تهواه سفينته.


مضى أمين يحثُ الخطى وهو بكامل أناقته نحوَ الحديقة، وفي الطريق بدأ يتدرب على الحوار الذي ينبغي أن يجريه معها: تُرى ماذا أقول في البداية إحم إحم، وقال بصوت مُفخم: مرحباً يا آنسة كذا كيفَ حالك؟ في الحقيقة لقد سرتني رسالتكِ كثيراً ولكن منذ متى تحملين لي هذه المشاعر؟ أنا لم أُحبَّ من قبل ولكن قلبي منذ الآن صار مُلكًا لك وابتسمَ برزانةٍ، "يَكفي هذا سيشاهدني الناس ويقولونَ أني أبله".

عبرَ بوابة الحديقة وعرّجَ متجهاً نحو النافورةِ المذكورة وبينما هو سائرٌ في طريقه التقط وردةً من الورود التي تغطّي جانبي الممر، ولما بلغ النافورة نظر إلى الساعة فوجدها السابعة إلا عشر دقائق فاطمأن بالهُ وجلس على زاوية النافورة ينتظر حلول السابعة، ولما حلّت راح يتأملُ وجوهَ المارةِ من الفتيات بفضول ونهم، وانقضى على ذلك ساعةٌ كاملةٌ دون أن تأتيَه البنت التي ضربت لهُ الموعد، فقال لنفسه بعد أن دقت الساعة الثامنة والنصف ولم تحضر بعد: لربما طرأ معها عارضٌ منعها من المجيء! "هممم آمل أن تكوني بخيرٍ أيتها الفتاة العزيزة"، غداً بكل تأكيد ستكتب لي رسالة اعتذار، أنا متأكد من هذا.


النهاية

جلسَ أمين على مائدة العشاء مع أمهِ وأخيه، فقالت الأم: كيف تركتَ مشاهدة مسلسلك التلفزيوني اليوم؟ وأنت الذي لم تكن أي قوةٍ لتزيحك عن الشاشةِ في مثل هذا الوقت! على كلٍ كان هذا من حظ أخيكَ الذي استمتع بمشاهدةِ مباراةِ فريقهِ لكرة القدم في الدوري المحلي.


رفع أمين رأسه محملقاً "الدوري!، الرسالة!" فنظر إلى أخيه الذي بدأت قهقهته تصل عنان السماء وجرى وراءه وفي يده يحمل مغرفة الطعام " اللعنة عليك أيّها الخبيث، تحبّني وأعجبت بي ها! سأريك، سأريك"، وصوت الأم يتعالى من بعيد "ماذا حلّ بكما أيّها المجنونين، تعالا هنا..أخبراني ما القصة! تعالا"