البداية
اتجهَ الجنديٌ سليم والذي يبلغُ من العمرِ عشرينَ ﺳﻨﺔً ذات صباحٍ نحو ﺍلضابط ﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻝِ عنهُ لطلبِ إذنٍ بالانصرافِ من كتيبته، ﻭﻋﻨﺪ ﺳﺆﺍﻟﻪ ﻋﻦ السبب، أﻓﺎﺩ بأﻧﻪ ﺫﺍﻫﺐٌ لخطبةِ الفتاةِ التي خلبت لُبّه، وسرقت قلبه، وملكت عليه جوارحه، وبعد أن بسط له الأسباب وافق القائد على مطلبه على مضض، ومَنحَهُ مُغادرةً ليومٍ واحد فقط، فطار الأول من الفرح يسابق الريح.
ﻛﺎﻥ ﻭﺍﻟﺪُ ﺍﻟﺒﻨﺖ التي هَواها قلبه ﻣﻦ أﻫﻞ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻭالجاهِ والعزوة، وهو ﻣﻦ نفس قبيلةِ الجندي، ولما حاول سليم الوصول إﻟﻰ ﻭﺍﻟﺪ ﺍﻟﻔﺘﺎﺓ في ديوانهِ المكتظِ بالرجال، عاملًا جهدهُ أﻥ ﻳﺠﺪ ﻓﺮﺻﺔً لكي ينفردَ به لم يستطع، وعندما لاحظ والد الفتاة ذلك ارتابَ في أمره، وأحسَّ أنّ لديهِ مَطلبًِا ينتَوي طلبه، فتوجهَ إليهِ قائلًا بصوته الجهوري القوي الذي علا سائر أصوات الرجال في الديوان: "ماذا ﻋِﻨﺪﻙ يا فُلان قُل على رؤوس الأشهاد، فكل من في مجلسي أهل وعزوة لي وليس بيننا أيّةُ أﺳﺮﺍﺭ!".
ﻗﺎﻝ ﺍلجندي بصوتٍ متقطعٍ وقد احتقن الدمُ في وجههِ خجلًا: أنا في الحقيقة وددتُ لو، يعني أنا يشرفني أن.. أن أطلب ﻳﺪ اﺑﻨﺘﻚَ المصون يـا.. ياسمين.
نظرَ والدُ ياسمين شزراً نحو سليم، ثُمَّ ضحكَ ضحكةً خبيثةً، وقال وهو يرشقه بنظرةِ استعلاء: ألا تُلاحظُ أنكَ وحيدٌ لا أهلَ لكَ ولا عزوة؟ والأُصولَ والأعراف تحتّمُ في مثل هذه الحالات أن يصطحب الطالبُ أبوه وأعمامه وأخواله! وأنت تأتيني وحيداً بلا أحد! هزُلت.
كيفَ تطلب مني أن أزوجكَ ابنتي! أتعتقدُ أن من السهولةِ بمكان رَميها هذه الرمية؟؟.
أرادَ الجندي المطعون في كرامته وكبريائه أن يتكلم، لكنه ما إن فتح فمهُ لينطق حتى لوّحَ الشيخُ بيدهَ وقال: تناول ضيافتكَ وعُد إلى منزلك.
ابتلعَ ﺍلجندي ريقهُ بصعوبةٍ بالغةٍ وسط العيون الشامتة التي تحدق فيه، ﻭأنهضَ نفسهُ وخرج يجرجر قدميه من ﺍلمجلس، وعندما وصلَ منزلهُ دفن رأسهُ تحت الوسادةِ والأسى يعتصرُ قلبه، وغطَّ في نومٍ عميق.
الفصل الأول
في صبيحةِ اليوم التالي ﻋﺎﺩَ الجنديُ سليم إﻟﻰ ﻋﻤﻠﻪِ وروحهُ مُثقلةٌ بوطأةِ ذكريات الليلة الماضية، ولمّا ﻻﺣﻆ زميلهُ حزنهُ وكآبته وتجهمهُ وشروده المتكرر، قالَ له:
هَا! وجهكَ لا يُبشرُ بخير، ما الذي حصل معك بالضبط؟.
-تنهد الضابط سليم وقال: لم يرفضني فحسب، وإنما أهانني إهانةً مَسّت كرامتي وشرفي، ولا أدري ماذا أفعل!.
-أما زلتَ تُحبها وتريدها زوجةً لك؟.
-فكرَّ سليم لحظةً ثُمّ ابتسم ابتسامةً حزينةً وقال: أكذبُ إذا قلتُ لك أنني صرفتُ نظري عنها بعد الذي حصل.
نظرَ زميلهُ في عينيه نظرةَ تحدٍ وقال: ستكونُ لكَ رُغم أنفه.
الفصل الثاني
دخلَ زميلُ سليم إلى مكتبِ الضابط المسؤول، وقالَ بلهجةٍ حماسية: سيدي، سأعرضُ عليكَ أمراً، وأرجو أن تساعدني في حِله.
-تحدث؟.
-لقد قطع الجندي سليم إجازتهُ، ولم يُعطَ طلبهُ وأهينَ مع ذلك.
-كيف، ما الذي حصل معه؟.
-طلبَ يدها من أبيها بأدبٍ جم، لكنهُ رفضَه معللًا ذلك بأنه وحيد ولا عزوةَ له.
-قال المسؤول: وماذا باستطاعتي أن أفعل؟.
-ﻗﺎلَ للضابطِ بعينين حالمتين: يمكنك إصدار أمرٍ بجمعِ ﻋﺪﺩ ﻛﺒﻴﺮ ﻣﻦ ﻣﻨﺴﻮﺑﻲ ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ، وطلبُ ﺗﺠﻬﻴﺰ ﺍلجندي سليم ﺑﺴﻴﺎﺭﺓ ﺟﺪﻳﺪﺓ لمرافقته لإﻋﺎﺩﺓ ﺍﻟﺨﻄﺒﺔِ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ، وحبذا لو زاد ﻋﺪﺩ المرافقين عن المئة شخصٍ من عشائر مختلفة.
-قاطعهُ الضابط باستغراب: أوف أوف ولمَ كُلُ هذا؟.
فأجابَ: ﻟﻴﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﺪﻫﺎ أننا أهلهُ وعزوته، فيشكّل هذا العددُ الهائلُ قوةً ضاغطةً على أبيها، فلا يستطيع بعد ذلك الرفض، لأنه إن فعل ستصبحُ قصتهُ بين الناسِ وسمًاً ﺗﻼﺣﻘﻪُ لعنتهُ إﻟﻰ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﺪﻳﻦ.
-تُعجبني حميتك وشهامتك سأفعلُ ذلكَ، فكرامةُ كل منتسبٍ من منتسبي وحدتنا هي كرامتي أنا بشكل شخصي. لكن لا بدَ لهذا من ترتيب.
الفصل الثالث
كَثُرَ الحديثُ حول هذهِ القصةِ في الوحدة، وأخذ نطاقُها بالاتساعِ طولًا وعرضًا حتى وصلَت ﻟﻘﻴﺎﺩﺓِ ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ واستقرت تفاصيلها -لحسنِ حظِ الجندي سليم- في ذهنِ قائدها
وشاءتِ الأقدارُ حينَذاك، أن يقومَ الأميرُ بزيارةٍ للوحدة، إذ وبينما هوَ يجلسُ في مكتب القائد يتبادل الحديث معه، رَوى القائد على مسامع الأميرِ من قبيلِ التسليةِ قصةَ الجندي سليم، فالتمعت عينا الأميرِ وأمرَ القائدَ باستدعائه، فيما لم يكن يعرفُ أنّ الأميرَ سيهتمُ بها إلى هذا الحد.
الفصل الرابع
طرقَ الجندي سليم الباب، وسمح له بالدخول.
قال القائدُ لسليم: يريدُ الأميرُ أن يسمعَ قصةَ خِطبتك من فَمك.
فقصَّ سليم مرتهب النفس من هيبةِ الأمير والقائد بصوتٍ متكسرٍ قصته.
فقالَ الأميرُ بصوتهِ المهيب: ماذا تَظنني فاعلٌ بعد الذي قُلتَهُ؟
قال سليم وهو يفركُ يديهِ وينظرُ إلى الأرض: أنتَ كريمٌ وجوادٌ يا سيدي.
غيّرَ الأميرُ صيغةَ سؤالهِ قائلًا: أُطلب تُعطى يا سَليم.
حينئذٍ حَدث سليم نفسهُ: لا تكن ضعيفًا لا تكن غبيًا، إنها فرصتكَ الذهبية لفرضِ زواجك من ياسمين كأمرٍ واقعٍ رغم أنف وَالدها والثأر لكرامتك.
ورفعَ صوتهُ قائلًا بشكل سريع: سيدي أريدُ منك قيادةَ جاهتي إلى أبيها.
ضحكَ الأميرُ ضحكةً رصينةً وقال: ها ها ها ها يشهد اللهَ أني تأثرتُ بقصتك، سأكونُ أهلك وعزوتك في مَجلسهم، ونظر إلى القائدِ وأردف: جَهِزوا الجندي سليم بسيارةٍ خاصة ولباسٍ أنيق، وأرسلوا إخطاراً إلى والد الفتاةِ بأن الأمير سيزورهم مساءً على رأسِ وفدٍ كبير.
الفصل الخامس
انطلقَ الموكبُ مع حلول المساء، وعند وصولهُ الديوان، ﻛﺎﻥ صاحبهُ متمسمرٌ أمام ﺍﻟﺒﺎﺏ مع أهلهِ وعشيرته، ولما وقفت ﺳﻴﺎﺭﺓ ﺍلأمير وﺗﺴﺎﺑﻘﻮﺍ ﻋﻠﻰ ﺍلأﺑﻮﺍﺏ ﻃﻠﺐ الأمير ﻣﻦ سليم النزول أﻭﻻً، وعندما هبطَ ﺻُﺪﻡَ ﻛﻞ ﻣﻦ رآه وترجَلَ الأميرُ خلفهُ، فَسلمَ ودخل الديوان، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺟﻠﺲَ سليم إلى جانب والد ياسمين، قالَ لهُ بنبرة ماكرةٍ: ﻋﺮﻓﺘﻨﻲ؟.
فقال: ﻧﻌﻢ أطالَ اللهُ عُمرك.
ﻗﺎﻝ الأمير: باختصارٍ شديد أنا ﻋﺰﻭﺓُ الجندي سليم، وأنا هنا اليوم لأﻃﻠﺐ يدَ ابنتك وكريمتك ياسمين له.
فأجابَ الوالدُ وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ ذليلة: هذا شرفٌ لي بالطبع سيدي، أنا موافق.
ﺍلأمير: ﺑﻴﺘﻪُ جاهزٌ ﻭمَهرها عشرةُ آلاف، وليكن العرس الأسبوع ﺍلقادم.
ثُمَّ شربَ الأميرُ قهوتهُ على عجالة وقال للقائد: آمرُ لسليم ببيت وسيارةٍ، ومبلغ ٢٠ ألف دينار، وإجازة تقدرُ بثلاثة أشهر، ثم نهضَ فوثبُ كل من في الديوان.
النهاية
سقطَ الجندي سليم عن سريرهِ بينما هو نائم، فاستيقظ من نومهِ مبدداً حُلمه الجميل ونهضَ عن الأرضِ مرعوباً وقد دقت الساعة الثامنة، فارتدى ثيابهُ بسرعةٍ وانطلق نحو وحدته، ولمّا وصلَ مُتأخراً، حُسِمَ من راتبهِ وحُجِزَ أسبوعين.